الاثنين، 2 يناير 2012

الباب والأغراب


 الباب والأغراب

 
    يتسلل الضوء حبالا من ذهب تنغرز في الجدران المقابلة وتنفجر في الغرفة معلنة أن هناك نهارا جديدا يحقق عبوره ، النهار عنيد وهذا دأبه ، و قد كانت النفس منذ الصبا ، تهفو ؛ وتندفع للقائه ؛ فيطيعها الجسد ، أما الآن....
الضوء نفاذ، يستغل كل شيء ليحقق عناده، فضولي يتسرب عبر الثقوب والشقوق، عبر الأنفاق والكهوف ، ليعلن وجوده للكائنات، ويعري المستور.
ويتذكر الطيب يوم اندفعت حبال الضوء؛ لأول مرة عبر ثقوب الباب؛ لتطهرها وتمحو الألم ؛ وتطارد الرعب؛ وتمنح الدفء للأشلاء؛  وللدماء المقرورة المتخثرة ؛ المتعانقة في برك.
كانت حبال الضوء، تكتب، تقول وتغني : سيبقى الإنسان أخطر الآفات ، يهلك الأحياء والأحلام والحياة .
حبال الضوء تسللت من خلال الثقوب التي مر عبرها رصاص الجريمة ؛ واستقر في الأجساد المستريحة في استرخاء ؛ وطمأنينة ؛ ورضا .
 كان الباب حين أمطرته الرشاشات موصدا ، وراءه ظلام دامس؛  يلف نفوسا تلهث متوثبة، أعين تدور في محاجرها ، تقلص الإحساس وضاقت دائرته ، ورق الخط الفاصل بين الموت والحياة حتى كاد يمحي ،... ما معنى الموت ؟؟.
 الموت هي أن لا تكون هنا ، أو على الأقل هي ألا تعي أنك هنا ، وأن تتخلص إلى الأبد ، من أناك ، ومن فكرة الخوف و الانتقام من الآخر، عدوك المفترض . وأن تستغني الروح عن الجسد، وعن المكان وعن الأحلام ,.
ولاحت بذهن الطيب مقابر وبقايا مقابر،  بعضها وجوه أصحابها باتجاه المشرق ورؤوسهم نحو الجنوب ، وبعضها وجوه أصحابها باتجاه الشمال ورؤوسهم نحو المغرب لم يعد للاتجاهات لديها معنى ، وكل مدفون فرح بنومه الأبدي .
رفع يده بصعوبة ، ومسح وجهه بجمع كفه ، فشعر أنه أزاح قطعا من أكوام ضبابية داكنة استقرت على روابيه ، وأحاطته بهذا الخواء الرهيب ، فراغ ممتد في فراغ أقسى، ومال برأسه قليلا نحو الباب و تساءل:
- ما وظيفة هذا الباب؟ .
الباب يسد منفذا ، أو يؤدي إليه فما وظيفة هذا الباب ؟. لاشيء إنه فقط أثر لموطئ قدم حمقاء ، لخطوة خاطئة خطاها التاريخ فداس ضحاياه في غفلة ، طحنهم وعبر ، وبقي الباب يحتفظ بمداخل الجرح ، بثقوب الدم ، شلالات تتدفق على الآفاق ، تزين شفق الأماسي ، وشفاه الأسحار ، ويزيدُ وَلَهَ الأقمارِ العاشقةِ المهرولةِ لمواعيد اللقاء في مواقيتها .
كان من المفروض أن يدفن الباب في المقبرة إلى جانب من دفن؛ الجميع قد دفن حتى التاريخ ذاته، ولم يبق سوى الباب، وآثار الأغراب.
وأنا أيضا سأدفن عما قريب ، أما الباب فسيبقى في مكانه ، يدور على محوره الخشبي
و يصر صريرا فيه مرارة الحزن الجاف الذي يلج إلى أعماق الأرض ، ويصعد إلى عنان السماء، يروي حزن الإنسان ووحدته ، يتنفس الهواء والنور من ثقوبه التي حولها إلى مسامات للاستنشاق.
دفن العسكريون الأغراب الذين سددوا عليه رشاشاتهم منتشين ، ودفن ضحاياهم ، أهل تلك الدار ذات الباب ، التي كانت، و الذين كانت أجسادهم تلهث ، تريد استبقاء دمائها المندفعة إلى الخارج عبر الشرايين ، منساحة من الثقوب الوردية المرسومة على صدورهم ، تريد لثم النور والغوص في أعماق التربة ؛ تروي لظى الشوق ؛وغم العطش وألمه.
تعاكست – يومها- اتجاهات الرشاشات ؛وزخات الرصاص شأنها شأن الصراخ والعويل وأصوات المواشي ؛والطيور الداجنة ، وصار القتل مجرد لعبة ؛لا تختلف عن غيرها من الألعاب إلا في درجة خطورتها بالنسبة للأحياء، كان الطيب يومها مشاركا في اللعبة صبيا منكمشا مكورا على ذاته في ركن البيت ؛ ولحسن الحظ أو لسوئه أخطأته قدم التاريخ ، وادخرته للمشاركة في ألعاب أخرى لاحقة، تدور معظمها حول اختبار مدى قدرة الإنسان على التمسك بالحياة و احتمال الألم.
النور مازال يتسلل من ثقوب الرصاص ، يحاول بعناد أن يطرد العتمة ـ أن يفضح المسرح الذي جرت على عتباته معركة التحرير ، تحرير الأرواح من ربقة الأجساد ، إزالة الحدود بين الأعداء، القاتل ليس عدوا للمقتول بالضرورة لأنه في أغلب الأحيان لا يعرفه ؛ وليس بينهما سابق خصومة ؛ ولأنه بفعله يوجد حلا لمشاكل القتيل.
الباب الوفي لصدقه فقط هو الذي مازال يحمل مخطوط العداوة على ظهره ؛ يبرزها لمن أراد الدخول أو الخروج ، والمخطوط يحدد العدو بدقة ؛ العدو هو الذي يبرزه تلاشى الغريب ،يحترف توسيع الجراح ، يبقي جراح الضحايا مفتوحة لأطول مدى ، وبقلوبهم ما بالباب من الثقوب ، تنفتح كلما دنف دانف ؛ وكلما غادر مغادر ، تقوب ، مسارب تغور بأعماق القلوب ، تحفر بشظايا العجز مساحات أوسع للتعاسة ؛ تجعل الجسد يتمرد عن الروح ، يخرج عن طوعها ، فلا يعود هناك معنى للحلم أو الأمل.
وتلك حال ورثتها -أيها الطيب- منذ هدر الرشاش بساحة البيت أمام الباب.ومنذ أن وقف جسدك قبالة روحك، كل مستقل بذاته.
سأل الناس،عن الضحايا كالعادة ، سألوا هل بقي هناك أحياء ، ثم تأسفوا كالعادة ،
 و انصرفوا ,تركوا نصفي مذبوحا من الوريد إلى الوريد لم يروه ، والنصف الآخر سليما واقفا ، رأوه ، أحنوا له رؤوسهم وانصرفوا مغادرين.
كان الضرب في جنب الجبل ، وقد صار الواقف جزءا من الجبل ، و المشكلة كانت دائما في الجبل ، الجبل يرفض أن يتزحزح ، أن يركع ،لا يمكن لأحد أن يحاوره ، يصمد يدافع بشراسة عن هويته ، والحرب ضده كانت مستمرة و شرسة أيضا ، غسل بالنار عشرات المرات؛ بأيد الغرباء والأعداء ؛ وبأيد الأهل والأبناء ، ولكنه كان يستعيد جلده دائما، ينبعث من العدم ، تخرج الجذور من تحت الأرض خضراء زاهية ، تعيد نسج أنشودة الحياة بنولها الدوار، وتعيد تلقين نفس الأغاني الحزينة لنفس الطيور ، وتغذي الأغصان بنسق التاريخ الخالي من الزيف ، والطيب كان - في جزء منه - جزءا من الجبل يستعصي على الانحراف و الانجراف ...؛  يستعصي على الصدأ والالتواء.
كتب في الباب بدم الضحايا : لا ضير من النار في جنب الجبل ، أرواح ساكنيه مباح قتلها بحكم العادة المتأصلة منذ الأزل، وللقتل لذة تغوي القتلة ، وتبهج الأعداء وترضي المتفرجين .
- أنا أهذي أين الكتابة التي ترى؟؟
- أنا لا أهذي؛  الكتابة في قلبي؛  وفي قلب الباب ؛ ولونها فاقع بلون الشفق.
- الأمر محزن ومأساوي.
- نعم الحياة كلها مأساة... بالنسبة للضحايا.
- ومأساة أن تحدث الروح ذاتها ساعة احتضارها؛  بأشياء لم يعد لها قيمة.
- لا الوعي قيمة في ذاته .
تعمق أكثر يوم أنهدت أصوار البيت ، واتكأ الباب لسنوات على الجدار المتهالك  ، يغتسل بماء المطر ، ثم عاد إلى مكانه ليواصل دوره ،فالبيت بدون باب ليست بيتا.
- والوعي في الروح الطاهرة أمة، والأمة الفاسدة الخامدة جثث تهلك الكون قبل أن تهلك.
-الأمة معظمها أغراب ،أعداء متنكرون؛ يعيشون بأقعنة تحمل ملامح أهل الجبل.
وتمنى الطيب لو تطاوعه حنجرته ، فيمد صوته بأنشودة : من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا..
انتكست أمنيته.
- كيف تصرفت الجثث يوم الإغارة؟؟!.
- كانت تقف هناك خلف أو داخل الأغراب ، تنتظر خلف الأقنعة أن يجف النجيع ،لتنسق من الزيف شعارات تزرعها في ثنايا الجراح ، وتقتات على الحكايات ومهرجانات المواسم والذكريات.
كان لا مفر للغرباء - و الجثث حينما تبدو - من التظاهر بالإحساس بالحرج ، تعبر عنه بشيء من الحزن العارض ، وبتلوين الملامح بعلامات الأسى ؛ تزفها إلى الآذان بعبارات الاعتذار المحفوظة ، ليرتفع الحرج ؛ وتعود كل الأمور إلى مواضعها ، وذلك ما فعله الطبيب والممرضتان وهم يتفقدون أشلاء البشر والحيوانات المتآلفة في وئام غريب.في اليوم الموالي لانشطار الطيب .
يدير الطيب وجهه ؛ بصعوبة باتجاه الباب ،يفتح جفنيه الواهنين بصعوبة.
لم تتوسع ثقوب الباب ، ولم تسمح للضوء بالمرور ، إلا بالقدر الذي كانت عليه أيام الجريمة ، ربما لأن الجريمة تواصلت على أيدي الأهل بصور أبشع ، الأهل الذين  أواهم الجبل وابتلع القنابل الحارقة في جوفه ليحميهم ، يتفرجون على الحرائق تزرع الموت في حناياه ، ويجدون الفرجة ممتعة ،بل يشعرون ببعض الدفء ، دفء الدماء النازفة تروي عطش التربة، لم يعد الجبل بالنسبة إليهم جبلا ، تغير العهد صار القاتل للسلف صديقا للخلف ، ومالت الأقنعة وصار المنحاز للجبل نذلا ، و الغريب أكثر تحضرا يبقي الجسد و يجتث الروح. لا معنى للنور في الخارج.
حاول الطيب أن يطرد الصراع من باطنه، أن يضع نهاية للحرب التي استمرت خمسين عاما ؛ وأن يعيش لحظة النصر، لحظة الوداع بكل ما بقي لديه من إحساس.
- هذيان الروح هذا أم استراحة الروح؟؟.
أخذت مساقط النور تنحرف نحو اليمين معلنة حلول وقت الزوال، وتمنى الطيب لو استطاع الوقوف لآخر مرة ، لو استطاع أن يدفع الباب ،ويخرج لتوديع التربة النقية الطاهرة ، بألوانها البديعة ، يكحل عينيه المنهكتين بألوان آكامها الرمادية والشهباء التي شكلت من ندبات الحرائق خانات على جنباتها ،تشقها أخاديد تصدعات الفجيعة، وجريان الدمع المسكوب على الرمم ، ويودع لآخر مرة القلة الباقية من ساكنيها الذين رفضوا الرحيل رغم الموت والنار.
كان الطيب ممددا ينزع، حين راح العالم ينسحب شيئا فشيئا ؛ تغمره موجات من الضوء ، تنفتل حبالا لولبية ؛ تصل جسده بالسماء ، ترفعه على مهل و الموجودات من حوله تصغر مبتعدة ، وأعمدة الضوء تكبر ؛ وتتسع أقطارها ؛ وتصرط جسده النحيل في صمت مهيب ؛ وأشجار الزيتون الهرمة وجاراتها تخنقن فحيح بكائهن وفاء لطبعهن ، تختزن دموعهن حتى يحين أوان الموسم الذي قد يأتي ؛ وتصير زيتا مباركا عونا للصابرين.
في اليوم الموالي حمل جثمانه على الباب الشهيد؛  فعانق كل منهما الآخر العناق الأخير؛ وبعد الدفن أعيد تثبيت الباب في مكانه ؛ ليواصل صريره الحزين ؛ يشرب حبال الضوء ويتابع شهادته على زيف التاريخ، وساما يشهد للمرحوم معلقا على صدر الجبل.



الضيف حمراوي 14/07/2007


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القول ما قالت حذام

  قا ل ، وروي ، والقول ما قالت حذام مع افتراض صدق النية، وسلامة الطوية ، فإن البصر بطبيعته كثيرا ما يخدع ، فيوقع الإدراك في الخطأ، فينقل ال...