الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

نحن والعالم -1-


المجتمعات العربية تصنع عوامل تخلفها -1-

بمناسبة زيارة نتانياهو للولايات المتحدة ؛ بعد فشل المفاوضات المزعومة مع الفلسطينين.قال أوباما موجها كلامه لليهود : " إن العالم يتغير بسرعة مفرطة " .
فهل تفهم الشعوب العربية هذا القول؟.
لا أعتقد أن العصابات الحاكمة في البلدان العربية وامتداداتها قد تابعت خطاب أوباما ؛ لأنها مشغولة بمتابعة عملية النهب للثروات والأموال العامة وتحويلها إلى بنوك " الغرب المعادي"، وفي متابعة ترسيخ عوامل الثبات والاستقرار لأركان سيطرتها ،و للأحوال المتعفنة القائمة (المآسي) ، أو في متابعة ورصد ما قد تنبس به شفاه شعوبها المسحوقة، أو ما قد يصدر عنها من حركات متبرمة من قسوة ممارسات أجهزة قمعها المتوحشة ... .
وفي حالة متابعتها لخطابه ، فأنا لا اعتقد أنها تحفل بمثل هذه الجمل لأن اهتمامها منصب على ما قد يصدر عنه ؛ مما تشتم فيه تهديدا لها أو تحريضا على تسلطها، أو انحيازا منه أو من شعبه لشعوبها الثائرة ضدها أو الممتململة في صمت متدثرة بالقول المأثور ،" اللي تعرفو خير من اللي ماتعرفوش" و " استر ما ستر الله".
ولذلك فسؤالي موجه للشعوب، وليس كل الشعوب، ولكن للفئة التي تحمل شيئا من الوعي، والتي تدرك أن الثبات ولو للحظة يعني الموت الحضاري .
أتوجه بسؤالي لهذه الشعوب المتخلفة التي تخصصت في إنتاج أصناف من المخدرات، عجزت الطبيعة على اتساعها عن إنتاجها.
الشعوب المتخلفة تنتج عوامل تخلفها، وتتعهدها بالرعاية ، وتستميت في حمايتها ،خوفا من البدع المضلة،وبفضل ذلك تتغير إلى الوراء ، إلى أسفل، تسرع نحو الموت فرحة؛في
طريق التحجر الذي يقيها محن الإحساس بالألم ، لأن المريض يستلذ الاقتراب من نهايته طمعا في الحصول على ( الراحة الأبدية)؟.
والعصابات الحاكمة لا تتحمل أي مسؤولية تجاه هذه الشعوب، ومآسيها .
أولا - لأنها عصابات ،وثانيا - لأنها في الغالب من أفقر الطبقات أخلاقا ، وفكرا ، وذكاء ، وأغناها خبثا وأنانية وغرورا وعنادا ، وهي في حقيقتها جيف مؤذية بل مهلكة ، وفي أحسن أحواالها بهائم كاسرة ، وما يهم البهيمة الكاسرة هو الأمن من الخوف ، ووفرة المأكل والمشرب ، والسيطرة على المكان إلى أن تهرم وتموت في نفس المكان ؛ وعلى نفس الوضع ، ولاشيء وراء ذلك.
وبالتالي فالمسؤولية كلها ملقاة على الشعوب وحدها، وعدو شعوبنا هي بنية ذهنيتها المتهرئة ، هذه الذهنية التي ألفت إعادة إنتاج القديم في جميع المجالات بكسل أكبر، وقبح أبشع ، و بسطحية وفوضى تعطل وظائف العقل لدى الإنسان والحيوان.
يكفي أن تناقش أي فرد حتى تكتشف أنه عبارة عن نشرة أخبار لقناة من القنوات ، أو هو كتاب قديم لم يحقق ، ولم ينقح ،أو لسان لمسؤول لا يسأل عما يقول ،أو... وباختصار آلة تسمع وتقول، دون أن ترى أو تميز،وهي تنكر ما ترى ؛ وتصدق ما تسمع ، وبذلك تعيش في غيبوبة عن الواقع،منفصلة عنه انفصال الجماد عن عوامل التأثير الطبيعية. وفي حال مابدا عليها دليل على أنها حية فهي مغرمة إلى حد الوله بالنكوص إلى الوراء ، إلى السنوات الأولى من العصر الإسلامي ،قبل أن يكتشف العربي أبجديات الحكم والحضارة ومفهوم الدولة.
وعليه فالعالم يتغير بسرعة مفرطة بالنسبة لأمريكا ومن شاركها ثقافتها، وشارك شعبها بنيته الذهنية،في الاستشراف و في الفكر، والتخطيط ، والحكم ، والرغبة في التغير ،وليس بالنسبة لنا، فنحن نؤمن بالستر وحرمة المستور ولم نفقه في ديننا غير "إذا أفحشتم فاستتروا " و"من ستر مؤمنا في الدنيا ستره الله يوم القيامة"ولم نفهم من ديننا إلا قوله تعالى ( ولن تجد لسنة الله تبديلا) ، ومع الأسف الشديد، فهمنا للآية لم يتجاوز معاني حروفها ، و فهمنا للسنة فيها باعتبارها أنظمة وقوانين مقدسة (مجازا ) ، بينما الحقيقة الماثلة للعيان التي تنكر ما ترى فوضى ،وأوضاع ، وحكام ، وذهنية تخاف التغيير وتراه بدعة ، وسراطا إلى جهنم دون غيرها.

11/5/22

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

صلاة العبيد


صــــــــــلاة العبيــــــــــــــــد

وضاق الأمر بالقايد ، حاصره الإرهاق ، أرهقته طاعة عبيده وإخلاصهم ،تضخم إحساسه بذاته حتى فاض فمحا ذوات الآخرين .
 كيف يفهم أشباه البشر هؤلاء ؛ أنه مثلهم لا يعلم الغيب ، ولا يستطيع المنح والمنع،وكيف يستطيع أن يفهمهم أنه نذل نجس،وأنه خائن متواطئ بل هو النذالة والنجاسة والخيانة والشر ذاته مجسدا يسعى؟ .
هل يعرف الناس "القايد باشاغا" أكثر مما يعرف هو نفسه؟ هل عندما يرى شرطته وزبانية التعذيب في حاشيته تجلد الرعية ، تجوعهم تعبث بكرامتهم ، بأعراضهم تكون رؤيته وهما ومحض خيال؟! فإذا صدق ذلك ترتب عليه أن إحساسه بأنه" باشاغا وهم أيضا ؛ و محض خيال. و إذا كان الأمر كذلك فالأحسن أن يُحمل إلى مستشفى المجانين. أرهقه الشك ولم يجد لدفعه سبيلا.
ولكن كيف يكون الأمر خيالا والعروش تهتز عندما يهتز ؛ وتسكن عندما يسكن ؟ و بوسعه أن يتأكد من ذلك في كل حين ؛  وقد تأكد منه آلاف المرات!؟
سأقف. وانتصب القايد باشغا واقفا ، فاضطرب كل ما حوله ، كل ما حوله تحفز وتهيأ واستعد ليكون السابق لأي إشارة ، أو رفة رمش؛ أو حركة من بنانه . واقفا رغم قصره ؛ مد في الأفاق بصره ، فتراءت له الجحافل الكادحة؛ كل يكدح فيما وضع له ؛ هؤلاء في خدمة الأرض قد صار نصفهم ترابا وطينا ؛ ونصفهم بشرا،والقائمون على تأديبهم يلهبون ظهرهم بالسياط في تفان حتى التحم الجالد بالمجلود ؛ فلا يعرف من يد من ينطلق السوط ؛ وبظهر من يلتصق ، فهو موصول بينهما وكلاهما يصرخ هذا من الألم، وذاك ليبرهن على تفانيه في العمل ، وعلى هذا المنوال تجري سنة الله في مماليك القايد ، وبين هؤلاء تندفع المواكب مهللة مستبشرة تسوق قطعان الأغنام والبقر ، والبط و الإوز والدجاج.
ظهورهم محنية تحت سلال عامرات لا يعلم ما في بطونها إلا الله.
ويسأل القايد باشاغا نفسه هل بقي للشك في نفسي رمق ؟
ولكن ماذا حدث لهؤلاء؟ كلما أزداد اضطهادي لهم وتنكيلي بهم ازدادوا طاعة وخنوعا وخضوعا، لقد أصبحت أكرههم بل أحتقرهم ،أمقتهم فحجارة هذه الأرض وغثاءها، وفضلات البهائم فوقها أشرف منزلة من أكرمهم؟
أكرههم ، و أكره أصولهم و دينهم وعقائدهم ويؤلمني أن يسعد أحدهم ولو مرة في حياته ، ولو بلذة التنفس؟.
وطاف ببصره فرأى الرواحل تأتي عامرات ، وتغادر خاويات يتبعها الفقراء الذين ازدادوا فقرا فرحين سعداء كل يبدي نوعا من الميل بمؤخرته نحو الجلادين طمعا في أن ينال ركلة أو رفسة من قدم أحدهم القذرة يتباهى بها أو بأثرها على خرقـته بين أهل عرشه عند عودته و يقفز بينهم فرحا ، لقد ضربني خادم القايد ولا شك أنه صار يعرفني ، نعم يعرفني ، ها هنا أثر رجله في مؤخرتي انظروا ، انظروا، ويرقص ؛ ويرقص ، ويشيع عنه أنه أحد الذين انتبه جلادو القايد إلى وجوده وأهدوه ركلات على مؤخرته ويزيدون ، داسوه في بطنه و... ويصير مشهورا.
كان يحز في نفس القايد أن هؤلاء الرهط يعتصرون السعادة من منابع الشقاء أكثر مما يستطيع هو، أنهم سعداء لأنهم أعطوه كل ما يملكون رغم أنه حرمهم الفوز بشرف النظر إلى وجهه –رغم بشاعه قبحه- وأباح ما ملكوا لعبيده وخدمه الخاص ورغم ذلك ينصرفون سعداء لأنهم أتموا مناسكهم.
يرفع بصره إلى السماء: يا الله لقد نفذ ما عندي من حقد على هذا العرش، ولم يعد خيالي قادرا على ابتداع طرق وأساليب أخرى في الإيذاء و التعذيب.
- أف أف ، يا الله لقد استنفذت طاقتي وجهدي وهذا حد الشر في نفسي ومنتهاه ، اللهم لا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك.
اللهم انك تعلم أنني لم أدعهم إلى ترك عبادتك والإخلاص في عبادتي ؛ ولا إلى الكف عن خشيتك إلى خشيتي،ولا إلى الإقلاع عن طاعتك و الانخراط في طاعتي.
اللهم إن كنت قد خلقتهم ليعبدوني فقد أرهقتني عبادتهم، وإن كنت قد خلقتهم لعبادتك فتولى أنت أمرهم.
ثم خطر له خاطر،فنهض غاضبا مشوه السحنة المسكونة بالبشاعة ، واضطرب محيطه كموج فاجأته عاصفة ، فبعثرت مساراته ،ثم ما لبث أن سكن وأعلن:-
- أيها ال.. أشيعوا في سكان العروش أنني لن استقبل أحدا ابتداء من اليوم، ومن كانت له شكوى فليتوجه بها إلى الله، أو إلى حاكم السلطان الفرنساوي وأنني إذا استفتيت من قبل هذا الأخير في شأن الشاكي منكم ، شهدت بما ينفعه دون مهاداة ولا جلد ، ويكفيني سعادة ألا أراكم ، وأشيعوا فيهم أن من خالف هذا الأمر ؛ سيلقى منا ما لقيه مخالفونا من قبل.
ومباشرة راحت ظاهرة الجزر تتجسد على اليابسة، وأخذت الأمواج البشرية تنحصر عن القصر، فصار محيطه أهدأ وأنظف، وألطف من ذي قبل ، وتلاشى الصياح والخوار والصهيل والصراخ ، وساق النسيم الروائح الكريهة بعيدا.
وأصبح للقايد الباشاغا أوقات فراغ يتأمل فيها شروق الشمس؛ وأحيانا غروبها ،فيجلس أحيانا إلى أبنائه يحدثهم عن فنون الحكم وتسيير شؤون العروش وطقوس عبادة المستعمر لنيل رضاه ورضوانه،وماذا يحب رجاله وماذا يكرهون ،و يعلمهم كيف يتمسحون في الوقت الذي يتهودون ، ومتى وأين وكيف ولما يسلمون . طقوس لا يعلمها إلا هو.
يعلمهم كيف عليهم أن يبيعوا التاريخ والوطن والمواطنين، للجيوش العبرة، ولجحافل المستعمرين ولكن في الوقت نفسه يوصيهم أن يشتروا أو يصادروا أراضي العروش وأن يسرحوا في أعراض من رضي منهم و أن يقطعوا دابر المعاندين فقط ، فقط لأنهم صوت نشاز في محيطهم يجرحون إيقاع النغم فيه.
ودار الحول ، وصار القصر بهدوئه يغوص في بحر الرتابة ،ولم تعد هناك صرخة مشنوق تنغص تشعر البشاغا بحقيقة منزلته ، ولا صوت سوط يحدث لثمه لجلد برئ طرطقة توحي بسلطان مهيمن في نواحيه ، ولم يعد هناك خوار ولا صهيل ولا صياح ، ولا طاسات للسمن البلدي والعسل والرحيق الملكي، لم يعد هناك لوز وجوز وجاريات.
لم تعد هناك عربات المعمرين مقبلة مدبرة ، تحمل العلوج المرط ، بقبعاتهم المائلة ، ورؤوسهم الخاوية . لم تعد الحركة كما كانت تؤكد للعامة أن لهذا القصر كلمة وأي كلمة في شؤون الحكم.
وفجأة صاح القايد ، ويلاه مضى عام مذ ضيعت مملكتي ، أي لحظة طيش تلك التي أصدرت فيها ذاك الأمر المشئوم؛ أي جرم ارتكبت في حق نفسي وحق أبنائي وأتباعي ، قصري يرمقني صار يمقتني ، قصري سيهجرني؟.
أنا لا شرف، ولا عرض و لا سمعة ، وقيمتي كل قيمتي في خيانتي ؛ وتواطئي وسوطي.
نهض القايد ونادى على خدمه فأقبلوا نحوه متراخين، رؤوسهم مطأطأة، قد تربع الملل على سحنات وجوههم ، فضرب أوتاده لا يغادر، واجتمعت عليه عيون كسيرة ، كانت قبل تقدح شررا في بحثها عن فريسة ،وكانت تفوز بها مهما كان .
وقالوا بصوت واحد :لبيك سيدنا ، لبيك يا من أذلنا وأعزنا لبيك، لبيك نطمع أن يجد وضعنا حلا لديك،لبيك ترهلت عضلاتنا، وسكتت سياطنا ، وكدنا أن نموت غما بين يديك .
- قال : استحى أن أعلن رجوعي عن قراري، ولكن عليكم بمداخل المدينة ومنافذها وبأطراف العروش وجنباتها، اجلدوا كل من أراد الخروج أو الدخول منها أو إليها، أو الانتقال من دشرة لدشرة ، أجلدوا وقيدوا و لا تأخذكم بأي منهم رحمة أو شفقة ، وليكن هدفكم دفع الناس إلى العودة إلى عادتهم السابقة التي كنت قد منعتهم منها، وخاصة الشكوى والمهاداة، وأنتم تعلمون أن المهاداة تحي للرحم عروقا و صلات. فلا تتوانوا ولا تقصروا في تمتين صلات أرحامنا مع محكومينا ورعيتنا ، ولينصرف كل لتنفيذ ما أمر به.
وتوزعت الذئاب مهرولة مكشرة جائعة، تجري نحو المداخل والمنافذ، والدروب والمعابر تتشمم روائح الفرائس ، وتتسمع حركات المارين والمارات ، لا يصدهم شيء.
وعاد الجلد يحرث الظهور، والرفس يدك البطون ويسوي المؤخرات،وصار الناس يتذكرون "القايد باشاغا" ، جدهم العطوف الحنون ، الذي يحفظ ماضيهم ، ويسهر على حاضرهم، ويؤسس لبناء مستقبلهم ،وبذلك فكل ما يأخذه منهم فهو لهم ، وأصبحت الوجوه مستبشرة قد داعبها الأمل ؛  وكأن شرايين الدم في أجساد أصحابها وعضلاتهم  قدأحست بقرب موعد حصص التدليك والتمطيط والتنشيط ، فنشطت قبل الموعد ؛ ولابد أن يكون هذا تمهيد لرفع المنع عن زيارة القصر ؛  والتبرك بالطواف به والتمسح بجدرانه.
وراحت الرعية تتفقد ما تجمع لديها من مال ، وما يصلح منه هدية للقايد عندما يعلن في الناس موعد الحج إلى قصره .
وبدأت حصص الجلد، تنطلق مع الفجر في المعابر، ولا تتوقف إلا إذا قرر النهار ذلك أو تعب الجلادون وانهارت قواهم، وصارت الطوابير تطول أكثر فأكثر يوما بعد يوم ؛ ونتج عن ذلك انعدام العدل في توزيع الضرب والتعذيب والتنكيل ،و نيل بركة السياط المطهرة ، فمن العبيد من كان يدخل إلى المدينة فيجلد مرتين: عند دخوله وأوان خروجه ، ومنهم من حرم لأيام حتى من رؤية وجه الجلاد وعضلاته المفتولة ، لأنه لم يتمكن من الوصول لينال نصيبه ؛ حقه المشروع ؛ المكفول له؛ كل ذلك بسبب طول الطابور وامتداده .
و بدأت مظاهر الاحتجاج والثورة على هذا الوضع تلوح هنا وهناك، متباعدة أحيانا في المكان والزمان ؛ كتفتح زهرات اللوز في سنة القحط ؛ ولكنها تتفتح في غفلة فتظهر وتلوح للرائي المتمعن من بعيد.
وكانت ما تنفك تزداد يوما بعد يوم،حتى قويت واشتدت وأعلنت عن نفسها جهارا دون خوف من القايد أو زبانيته ؛ وصرخ الناس منادين في مسيرات انطلقت من الدواوير والمداشر منادية بأصوات عالية وصلت إلى آذان القصر "نريد العدل والمساواة ونحن منذ القدم إخوة مسالمون" وانتشر الشعار بسرعة كانتشار النار في محطة بنزين،وجرى جنود القايد من السود والبيض إليه متضرعين.
- يا أبانا ، قد ألفناك منبع الحكمة والرأي السديد، والحزم الشديد، والباع المديد ؛ لا تتردد ؛ وإذا قضيت في أمر لا تعيد ، فافتنا في أمر هؤلاء العبيد.
وقف القايد يجلله القبح الذي ألف العبيد الاستمتاع بالنظر إليه ؛ واستجلاب السعادة منه ؛ وقد زاده الخوف من تردد الشعار المشؤوم قبحا إلى قبحه ، فصار هو البشاعة عينها واقفة أمام عبيدها ؛ سادة العبيد.
وقد هداه دهاؤه وغلبة عنصر الشر على طبعه، إلى الاحتماء بالصمت رغم أنه كان مرعوبا من تواصل هتاف الهاتفين: نريد العدل والمساواة...
التفت القايد إلى سادة عبيده فجثوا خانعين ، ينتظرون الأمر الخطير وقال: اذهبوا إليهم واسألوهم عن أي عدل يتحدثون ؟ لأن العدل غير المساواة ، وتحقق المطلب الأول قد يكفي ، وتجاوزه إلى الثاني ممكن ، وقد لا نكون قادرين على إجابة طلبهم لا في هذا ولا في ذاك إلا بعد الإذن من السلطان الفرنساوي المعظم، نفعنا الله ببركة حلمه وفضل علمه.
وذهب كبار العبيد إلى صغارهم ، وأشاروا ملوحين بسياطهم: أن اصمتوا و اسكنوا فهلل الجمع تهليلة رددتها الأودية والشعاب والوهاد المجاورة: عدلك أيها الجليل المبجل ، عدلك أيها الجليل المبجل؛وألقى صمت المقابر رداءه على الأماكن ، وانبرى كبير العبيد مرسلا الخبر :
- لقد تكرم سيدي وتفضل زاد فضله بمنحكم فرصة تقديم شكواكم،فأجمعوا أمركم بيد بليغكم ، وليحدد ويوجز ثم يعلن.
تراجع المد إلى الخلف قليلا ، وتواصلت عرى الحوار والتشاور ،فاتضح الحال لأهل الحكم والروية والمعرفة بتدبير الأمور العويصة ، ودفع المظالم المهلكة، والأخذ بمبدإ الأخذ بأخف الأضرار ووضع الاتفاق بين يدي لسان المداشر والعروش .
تقدم لسان المحتجين الثائرين المتمردين ، بعد أن استجمع قواه وتسلح بدعوات الحاضرين والحاضرات ؛ وبركات الأحياء منهم والأموات ؛ ليعلن للقايد الغاية التي تحلم الرعية بها.
- يا سيدنا عفوكم إن حرمني من مدحكم مقام الإيجاز ، وعجزي في مجال الإعجاز ؛ فاكتفيت بالإنجاز في حدود ما حملت قوله:
يا سيدنا :عبيدكم يلتمسون من سامي شخصكم زيادة عدد الجلادين ؛ لكي تأخذ كل رعية نصيبها من الجلد ؛ أو التعذيب ؛ أو التنكيل حسب ما تستحق ؛ حين الاستحقاق ، ونقضي بذلك على تفشي ظاهرة الطوابير التى طالت جميع مداخل المدينة فأفسدت الحقول بما فيها، فاجتمع علينا بسببها الحرمان من مهاداتك لأنك حرمتها ،وتعب الطوابير ومشقة الانتظار فيها ، وفساد المحاصيل المداسة ، ودمتم سيدنا لرعيتكم.








الضيف حمراوي




الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

الكلاسيكية


الكلاسيكية  Le classicisme-

تعريف المذهب :

المذهب: هو مجموعة من المبادئ و الأفكار المتجانسة في مجال من مجالات الحياة؛  الدينية؛ أو الفكرية؛ أو الأخلاقية؛ أو الاقتصادية؛ أو الفنية تؤمن بها فئة من الأتباع ؛  وتقيم حياتها على أسسها وتعمل على نشرها والتبشير بها.
الكلاسيكية
-Classicisme
والكلاسيكية في معناها اللغوي مشتقة من الكلمة اللاتينية : "كلاسيس  
Classis، وتطلق في الأصل على مجموعة من السفن الحربية أو التجارية، أي : "وحدة في الأسطول" ، كما تطلق ـ أيضاً ـ على: "الفصل الدراسي".
واصطلاحا: مذهب أدبي يطلق على الأعمال الفنية والأدبية المطابقة للقواعد ؛ والقيم ؛والعادات ،
و التقاليد ،  و الأعراف المتوارثة التي اكتسبت قدرا من القداسة والاحترام.و التي تتخذ من الأعمال الفنية القديمة الإغريقية- اللاتينية القديمة أصولا و نماذج تحاكيها ، وتنسج على منوالها في التزام الموضوعية؛  والدقة ؛والصرامة واحترام النظام ، والتناسق واستعمال اللغة الارستقراطية الراقية.
- نشأة المذهب الكلاسيكي:

تأسس المذهب الكلاسيكي في فرنسا ،  واتضحت معالمه خلال السنوات 1660-1680م والقرن الموالي الذي عرف بالمرحلة الكلاسيكية. وذلك بعد نزوح علماء بيزنطة وأدبائها إلى الغرب نتيجة لسقوط القسطنطينية بيد العثمانيين، حاملين معهم المخطوطات الإغريقية واللاتينية القديمة، عاملين على نشرها ودراستها، واستنباط خصائصها وقواعدها التي أكسبتها الخلود والبقاء، مستضيئين في ذلك بكتابي أرسطو المشهورين: "الخطابة" و"الشعر"، وبقصيدة هوراس الشاعر الروماني الطويلة المسماة: "فن الشعر". 


       و قد تحددت قواعده على يد الأديب الفرنسي نيكولا بوالو
Nicolas Boileau (1638-1711) في كتابه "فن الشعر" l'Art Poétique" الذي نشره سنة 1874م. ومن أهم خصائص المذهب الكلاسيكي:
1- محاكاة الأعمال الفنية الإغريقية- اللاتينية القديمة باعتبارها أصولا تحتذى وتتبع .
2- تقديس العقل ؛  والمنطق؛  والموضوعية؛ والتزام القواعد الأخلاقية ؛ والمقاييس الفنية الموروثة ؛  وعدم الخروج عنها؛ لأن كل عمل فني خلا من العقلانية والمنطق افتقد بالضرورة مبررات وجوده في منظور الكلاسيكيين .
3- تقديس الحقيقة باعتبار أن كل ما هو حقيقي جميل بالضرورة ؛ وكل ما هو مزيف أو متكلف  قبيح بالضرورة.
4- الابتعاد عن الخيال والعاطفة، لاعتقاد الكلاسيكيين أن العاطفة ما دخلت أمرا إلا أفسدته.
5- نبل المواضيع: تشترط الكلاسيكية أن تكون مواضيع وأحداث الأعمال الفنية نبيلة في دوافعها ؛ ووقوعها ؛  و إنسانية في مقاصدها ؛  و غاياتها تجسد الانتصار للخير ضد الشر؛ والحق ضد الباطل؛ والكمال ضد النقص، و الواجب ضد العاطفة.
6- نبل الشخصيات:لابد أن تكون شخصيات الأعمال الأدبية والفنية مختارة منتقاة ، وممثلة للطبقات الاجتماعية النبيلة والارستقراطية : كالملوك ؛  والأمراء؛  والنبلاء؛  والفرسان .تتجسد فيهم صفات الشهامة ، والنبل ، والبطولة .


7-احترام الوحدات الثلاث: وحدة الحدث؛ وحدة المكان؛ وحدة الزمان.
8- اللغة الراقية: تشترط الكلاسيكية أن تكون لغة العمل الأدبي لغة راقية، نبيلة ؛  ارستقراطية ، ألفاظها مختارة بعناية ؛ قوية ؛ متينة مناسبة للمعاني ،  وتراكيبها جيدة البناء ؛ منسجمة متناسقة ، تحمل المعاني في إيجاز؛ ودقة ، ووضوح خالية من التكلف.
9- أقطاب  المذهب الكلاسيكي : من أشهر أدباء المذهب الكلاسيكي في الغرب .

 في فرنسا : جون راسين( Jean Racine (1645-1730 ؛ وبيير كورني Pierre Corneille ؛ وموليير( 1622-1673) Molière) .
و في انجلترا : هنري شكسبير Shakespeare Henri
- الكلاسيكية في الأدب العربي:
كان تأثير المذهب الكلاسيكي على الأدب العربي محدودا، وقد ظهر هذا التأثير على نحو خاص في الشعر المسرحي ، بفضل اتصال بعض الأدباء العرب بالمسرح الكلاسيكي الفرنسي ، عن طريق الترجمة والاقتباس ؛ وخاصة بعد أن ترجم مارون النقاش مسرحية البخيل لموليير ؛ وترجم سليم النقاش لمسرحيتي "هوراس" لـ كورني و"ميتردات" لـ راسين.
وأهم الأنواع الأدبية الكلاسيكية:

أ- الشعر الموضوعي المسرحي :
1 ـ التراجيديا: وهي المسرحية الجادة النبيلة التي تثير الشفقة والخوف، وأسلوبها سام رفيع، وشخصياتها من الملوك والأمراء، وعند اليونانيين القدامى كانت شخصياتها من الآلهة، وأنصاف الآلهة كما يزعمون.
2 ـ الكوميديا: وهي مسرحية هزلية ،  تثير الضحك ،  توضع للتسلية، أو للنقد السياسي والاجتماعي، أو لتصوير العيوب النفسية والاجتماعية ومحاولة إصلاحها، وشخصياتها تؤخذ ـ غالباً ـ من عامة الشعب.
3- الميلودراما : الحياة في صميمها ليست مأساة، وليست ملهاة، وإنما يبكي الناس فيها ويضحكون في أزمات أو فترات طارئة، لذلك ربما وجدت مسرحيات لا تبلغ حد المأساة كما لا تبلغ حد الملهاة، فنشأت منها ما أطلقوا عليه الميلودراما ،
كان تأثر الأدب العربي بالمذهب الكلاسيكي محدودا لجملة من الأسباب من أهمها:
- عدم توافقه في الكثير من الجوانب مع الروح العربية والإسلامية ؛ ومع قيمها بشكل عام ، ومع الميول الفنية .
- متطلبات المرحلة كانت تتطلع إلى ما يدفع الأمة إلى الأمام ؛ وليس إلى ما يشدها إلى الماضي خاصة وأن هذا الماضي ليس ماضيها .
- محدودية الاحتكاك؛  والتفاعل ؛  بين الأدباء العرب ؛ وأدباء الغرب في هذه الحقبة من التاريخ.
و رغم ذلك ؛  ظهر تأثير المذهب الكلاسيكي الغربي على الأدب العربي بوضوح في مسرحيات أحمد شوقي الذي اطلع على الأدب الغربي ؛ واحتك به بطريقة مباشرة ؛ بحكم دراسته في فرنسا وإتقانه للغة الفرنسية ؛ مما جعله أول شاعر عربي ؛  يحاول أن يكتب مسرحيات شعرية عربية كلاسيكية ،  وحاول أن يوفر لها أكبر قدر ممكن من خصائص المذهب الكلاسيكي ،  فحاول بقدر ما استطاع التزام الموضوعية؛ واستمد أحداث مسرحياته من التاريخ المصري القديم  كمسرحية كليوباترا ، وقمبيز ؛ علي بك الكبير ،وجعل شخصياته من الطبقات النبيلة الارستقراطية ؛ فأدار فيها الصراع بين الحب والواجب ؛ والخير والشر، والحق والباطل مع احترامه مبدأ الوحدات الثلاث.
غير أن احمد شوقي لم يكن موفقا تمام التوفيق إذ جاءت بعض أحداث مسرحياته غير منطقية ، واكتفى بوصف المظاهر والشخصيات وصفا خارجيا ولم يستطع تعرية دوافعها النفسية العميقة فجاء الكثير من أشعاره المسرحية أقرب إلى الشعر الوجداني الغنائي مع شيئ من ضعف الوحدة في الحدث والمكان والزمان.
أما العناصر التي استطاع ان يوفرها فهي:
1-اتخاذ الشعر وسيلة للتعبير عن أحداث موضوعية مستمدة من التاريخ
2- اتصاف المواضيع و الأحداث والشخصيات والصراع و بالنبل: الصراع بين الحب والواجب بين الخير والشر.


3-الاعتماد على الألفاظ الفصيحة ,وعلى الأساليب  الراقية الموجزة ؛  المحكمة النسج: محاكيا الشعر الجاهلي و العباسي .

ب- في الشعر الغنائي الوجداني : أي في غير الشعر المسرحي القصصي ، نجد الكلاسيكية العربية  مجسدة على أيدي شعراء المدرسة الاتباعية : محمود سامي البارودي ، و أحمد شوقي ، وحافظ إبراهيم في مصر ، ومحمد العيد آل خليفة في الجزائر وغيرهم  ممن احتذي سمت القصيدة العربية القديمة المتـأصلة ، في قصائد أعلام الشعر العربي في عصوره الزاهية : الجاهلي ، والأموي ،  والعباسي ،في بنية القصيدة العمودية ، ووضوح المعنى وشرفه ، ونمطية الإيقاع :وحدة الوزن والقافية والروي.

الخميس، 17 نوفمبر 2011

حيـرة الشياطين

حــــــيرة الشيـاطيـــــــــــــن  -قصة قصيرة
يا سيدي "الكايد" أنا اطمع أن أكون قد هيأت لنفسي زاوية في نفسك ، أطل منها عند الحاجة ، واحتمي بها عندما تغضب ، أو أتبوؤها عندما ينشرح حالك وترغب.
فقال الكايد : ما ألطف روحك ، فرغم شيخوختك أراك مازلت طفلا ؛ ينكت ، يتودد ، يمرح ويلعب ، ويظل يلف ، ويدور ويدور حتى ينال ما يطلب.
قال سليمان متوددا مستجديا: مطلبي يسير ، وغايته حراسة سيدي "الكايد" ، وكشف ما فسد من عيونه ، ضمانا لحماية أملاكه، وتنظيم الحركة في أفلاكه. أطمع يا سيدى" الكايد" أن تعلمني مما علمك الله من دراية في التدبير، وبراعة في الحكم والتسيير.
ضحك" الكايد" ونظر بطبعه الخبيث ، المروي بدم الخيانة إلى عبده وقال:
- يا سليمان:فن التدبير، وعلوم الحكم والتسيير أعلمها لمن يخلفني في الحكم والكيد و"الكيادة"، ورعاية مطالب الدنيا والدين، وشؤون العباد والعبادة.
لقد طلبت يا سليمان مفتاح السلطان والسيادة ،وهو مطلب لا أرى أن في رقبتك ما يؤهلك إلى التطلع نحوه دون أن ينكسر عنقك.
قال سليمان : بوجودك يا سيدي" الكايد" ، وفي أعتاب قصرك ، وساعات إشراقك وانشراحك يتحقق المستحيل إن رضيت وسمحت.
ورغم ما تراه من عيوب وندوب في رقبتي ؛ - وهي دليل وفائي لك و إخلاصي في خدمتك - فإنها رغم عيوبها تحمل رأسا ، يمكن لمن يعلم ما بداخله أن يتفاءل .
قال "الكايد" : إذا شئت الصراحة ، وطلبت الهناء والراحة ، فاصرف تفكيرك إلى شأن آخر يغنيك ، لأن قضايا التدبير وفنون الحكم والتسيير ، ومحاربة البدع وهزات التغير ، لا استطيع أن أخص بها إلا أبنائي.
قال سليمان : لا أريد أن انتقص من ذكاء أبنائك أو نباهتهم ولكن فنون الكيد و" الكيادة" التي خبرتها فيك يا سيدي لا قبل لعقل بشر بها فقد سلمتم البلد لفرنسا بيد وأخذتم ناصية فرنسا بالأخرى.
و أعلم – يا سيدي - أنني أطلب صعبا ، تشجعني عليه وتشفع لي صحبتي الطويلة لشخصكم ، ومراقبتي الدائمة لبراعة تدبيركم ، وإتقانكم جزر أعناق خصومكم بدهاء ونعومة تفوق نعومة الزبدة والعسل في حلوق العطشى ،
قال " الكايد "وقد رأى إصرار سلميان : علي إذن أن امتحنك ؛ وأرى مدى تصميمك ، ومدى نباهتك وقدرتك على المبادرة.
 سليمان: أشر، تجد ما طلبته حاضرا.
قال "الكايد" : لقد بلغني أن عبد الرحمن بن إبراهيم قد شتمني ، ونعتني أمام الناس بكل النعوت المشينة ، منها أنني خادم فرنسا، وأنني لا أحسن إلا صيد الجراد ، ونشر الفساد ، ونفي الصالحين من العباد فعليك به اضربه ضربا مبرحا لا يعود بعده لما قال ما عاش.
-   لكن يا سيدي "الكايد" ألم تره قبل اليوم ؟ إنه سنديانة وليس بشرا.
قال الكايد : على كل حال ذاك طلبك ، وهذا عرضي ، و لك الخيار.
غاب سليما وعاد في صبيحة اليوم الموالي ، يلهث وقد اسود وجهه ، وتغضن جبينه ، وارتعدت فرائصه، وألقى بجثته متهالكة بين يدي "الكايد" باشاغا وهو يردد : لقد قتلته ، ما كنت أقصد ، ولكنه مات ، اختبأت له في أحراج "ختالة"و غدرته ؛ فسقط دون روح ، كنت أريد أن أنفذ وصيتك يا سيدي ، كنت أريد أن اضربه ، أن اشبع حنكيه صفعا حتى يحمرا كحبة البندورة تأديبا له كما طلبت ، واشيبتاه، غدرته فغدرني.
نادى "الكايد "رئيس زبانيته: يا بلقطائع ، أيها النسر الطائع ، والشهاب الساطع ، خذ سليما والق به في الجب ، داخل المخزن إلى أن ننظر في جريمته.
قال سليمان : حلمك يا سيدي الباشغا ، أيها" الكايد " المبجل .
- لا ، لا حلم مع من طلب حسن التدبير ، وسلك طريق القتل و التدمير.
- ياسيدي: قتلته خطئا ولم أدمر شيئا.
- مادام قد مات ، فسيدمر من تلقاء نفسه و أنت من أوجد فيه سبب الدمار ، أم تراني كاذبا.
ولم يكف الوقت لرد الجواب لأن باب المخزن كان قد إزدرد سليمان وابتلع صوته.
أمر" الكايد" خدمه : أسرعوا إلى "ختالة " واحملوا عبد الرحمان بن إبراهيم إلى هنا حيا أو ميتا.
عاد الخدم بجثة الرجل مسجى محمولا على أضلاع خشبية منسوجة بحبل.
سأل "الكايد": حي أم ميت ؟
قال كبير فرقة الإنقاذ : فيه نفس.
قال "الكايد" :عالجوه ، أعطوه شرابا من عسل، مذابا في ماء واحسبوا ثمنه على ذمة سليمان .
في منتصف النهار كان عبد الرحمان قد استعاد كامل عافيته ،ولكنه لم يع ما حدث له ، استدعاه "الكايد" باشاغا ؛ وسأله ماذا حدث لك؟.
 يا سيدي مررت بختالة وهي كما تعرف مسكونة بالجن والغيلان وغيرها من مخلوقات العالم السماوي ، ويبدو أني قد دست على عفريت فانتقم لنفسه في الحال ، وستر الله ، ولله الحمد.
قال "الكايد " : ابق في ضيافتي -يا عبد الرحمن- حتى آذن لك بالانصراف.
طلب "الكايد" من خادمه أن يسير أمامه بالفانوس إلى حيث ألقى سليمان في الجب مكبلا ، استعد سليمان بمجرد أن أصدر الباب صريره .
قرب الخادم الفانوس من وجه سليمان كي يتمكن" الكايد" من قراء ملامحه المرعوبة القراءة الصحيحة ثم قال:لقد مات عبد الرحمن رحمة الله عليه ، وألهم أهله الصبر والسلوان ، والواجب وحسن التدبير يحتم على أن أخبر سيدي الحاكم العام للسلطان الفرنساوي ليرى فيك رأيه: الإعدام شنقا ، أو النفي إلى "كيان" أو "كالدونيا" ، وحسب معرفتي التي جمعتها من رسائل المنفيين؛ وأخبارهم ، يكون اختيار الإعدام أرحم لمن وقع في مثل ما وقعت فيه.
صرخ سليمان متضرعا : يا سيدي "الكايد" ما خاب من عناك ،وتشبث بأطراف ثيابك ، ولثم تراب نعالك ، الرحمة الرحمة ، والنجدة والغوث.
- يا سليمان أنا لست الحاكم العام للسلطان الفرنساوي ، ما أنا إلا خادم مطيع ، أريد رد الجميل لفرنسا التي حكمتني في رقاب أهل هذا البلد وسادتهم ، وأطلقت يدي في مصادرة أراضيهم وممتلكاتهم و العبث بأعراضهم أفعل بها ما أشاء، وأنا أعرف منزلتي وحدود قدري وما فعلته أنت يتجاوز حدود سلطتي ، وعلي أن أضعك بين يدي سيدي الحاكم العام ، كما تحتم أعراف الولاء ؛ ليرى في شأنك رأيه.
ولكن قبل ذلك أجد من الواجب أيضا أن أنبهك إلى أمور قد تكون خافية عنك : فأما الموت شنقا فلم يخبرني عنه أحد ممن خبروه وماتوا مشنوقين حتى أخبرك ، وأما المنفيون فلي بأحوالهم معرفة أسكبها في سمعك لتكون على بينة من أمرك ، وستقرأ على سمعك رسالة المنفي الإرهابي المدعو العروسي بن على التي أرسل بها إلى أهله من "كيان" ب"غويانا" الفرنسية قبل سنوات فاهدأ وأعرها سمعك .
و أمسك الفانوس من خادمه وأمره أن يقرأ وأن يتمهل ويبين.
" أهلي الاعزاء السلام عليكم ورحمة الله وبعد:
نحن في جهنم بدون نار، سجن يقع وسط مستنقعات تخرج فيها الأشجار من الماء وتنغرز أغصانها في السماء، تتسلق أفنانها الأفاعي وتطوف حولها قطعان التماسيح ، وتضج أرجاؤها بعويل القردة المرعوبة والثكلى ، وتعرس على أشلاء الضحايا فيها أسراب الذباب والبعوض مزغردة راقصة نشوى ، يطعم المحظوظ منا مرة كل عشرين يوما فتاتا لا يشبع صبيا ، يقتل بعضنا بعضا من أجل الفوز بصرصورة إذا حان أجلها فتسربت من شق الباب ، تؤكل هي ويرمى بجثث من ماتوا من أجل الفوز بها إلى أفواه الأفاعي والتماسيح المفتوحة فنسمع تكسر عظام أحبابنا بين أنيابها فنبكي الدم والدمع على شدة ما بأجسادنا من جفاف..."
صرخ سليمان: كفى؛ كفى أموت شنقا؛ أموت شنقا وأدفن بين أهلي، أدفع من أجل ذلك ما بوسعي لمن يحقق طلبي.
قال" الكايد" : يا سليمان إذا كان لديك ما يدفع ، فقد أفكر في مخرج قد يخفف أو ينقذك مما أنت فيه ، وقد أزيد من عندي .
قال سليمان: أبيع البقرات ، أبيع نعاجي ونعاج حماتي ، أبيع الفراش والغطاء .
قال "الكايد" مستهزئا ومسخفا لما سمع : وماذا تساوي بقراتك ونعاجك أيها الأبله ، أن المطلوب شفاعته هو حاكم السلطان الفرنساوي.
ومهما زدت من عندي رحمة بك، فلن يرضي ا المبلغ المجموع سيدي الحاكم، فهل هذا كل ما عندك، وكل ما في ملكك ومقدورك؟؟.
قال سلميان : سيدي "الكايد" أنت تعلم أن لي أيضا ستة قطع أرضية و الحوش ورثتها عن المرحوم .
- إذن اختر وبسرعة إما الحبل أو التمساح وإما بيع كل ما تملك لشتري روحك بثمنه.
- وكيف أبيع وأنا مسجون ومحجور علي ؟ و من لي بالشاري الذي يدفع الثمن في الحال؟.
فال" الكايد "متواضعا مبديا إشفاقه : في سبيل إخراجك من هذه المصيبة يمكنني أن أساعدك فأبحث لك عن شار ، و أبعث في إحضار القاضي الموثق على نفقتي إذا عزمت على البيع ، وماذا تملك إذا أنت احتفظت بملكك وخسرت عمرك؟ .
قال سليمان : صنيع لن أنساه لك يا سيدي إلى الأبد؛ ولكن هل تعتقد أن ثمن القطعات والماشية يرضي سيدي الحاكم.
- سأحاول معه، وقد أزيد من عندي والله الموفق آمين.
- آمين، آمين يا رب العالمين.
ومرت ساعة اختلط فيها الأمر على سليمان ، فلم يدر هل هو فوق الأرض أم تحتها ؛ هل هو في حلم أم في حقيقة ، في نهار أم في ليل وما الذي أوصله إلى قتل شخص برئ لا علاقة له به ، وكان ما ينفك يضرب فخذيه بيديه حينا ويمسك بهما رأسه يعصره حينا آخر .
دخل بالقطايع ، النسر الطايع ، ووضع غطاء أسودا على رأس سليمان ، وحبلا في رقبته وهمس في أذنه كن في منتهى الطاعة أو أمنع النفس من الدخول إلى رئتيك ، وجذب الحبل فتبعه سليمان كالعجل.
بعد لحظات شعر سليمان أنه يدخل إلى بيت فيه دفء وضوء ، ورفع الغطاء عن رأسه فأبصر "الكايد" في مجلسه ، أراد الاندفاع نحوه ليقبل يديه ، ولكن الأخير أشار إليه اجلس في مكانك ، فأطاع وجثا حيث كان.
قال "الكايد" : هذا القاضي وهذان عوناه ، وهذان الشاهدان. ثم التفت إلى القاضي: وهذا البائع.
قال القاضي : على بركة الله .
- اسمك سليمان البراهمي.؟
- نعم سيدي القاضي.
- هل أنت في كامل قواك الجسدية والعقلية؟.
- نعم سيدي القاضي..
- تريد بيع كل ما تملك بالثمن الذي ذكره سيدي "الكايد"؟.
- نعم .
شرع القاضي معلنا ما يكتب.
"...حضر لدينا بمكتبنا المبجل المكرم سليمان البراهمي ، المولود بعرش أولاد إبراهيم حسب شهادة ميلاده عددها ثلاثة عشر وهو في كامل قواه العقلية ، عارفا غير جاهل وباع ساعيا ، راضيا مختارا ، بيع بت إلى المشتري منه المكرم "كايد" العرش وباشاغاه كل ما يملك : أرضا وسماء ؛ بورا ومعمورا، مياها سايلة وراكدة ، وطيورا قارة ومهاجرة ، ما كان له في العرش المذكور وفي غيره صار إلي إلى ملكه بكسبه أو بالإرث من أسلافه ، الظاهر منه والخفي ، و الكائن وما قد يكون ؛ بيعا تاما ناجزا سالما من كل العيوب والمفاسد لا يقبل الطعن، ومن طعن فيه، طُعِنَ في عقله وعلمه ودينه ، ورد كيده في نحره، ورضي الله عن كاتبه و شمله برضاه وستره إلى يوم الدين ، آمين. آمين.
- امض هنا بإصبعك.
- أمضي يا سيدي بالعشرة.
- ألف مبروك عليكما.
قال "الكايد" عد إلى مكانك يا سليمان المبجل مع " النسر" ولا تبرحه حتى أعود من عند الحاكم مد الله في سلطانه.
- حاضر يا سيدي حاضر.
ورجع به إلى مكانه بنفس الطريقة والعتاد ، كما أوتي به لكن دون ملك.
- وبعيد العصر أفرج عنه ، فعرف بالبديهة الصائبة أن "الكايد" قد عاد من زيارته للحاكم وأنه قد نجح في مهمته ، فخرج فرحا يبحث عن "الكايد" ليسدي له أي الشكر و العرفان.
وصل فلثم اليدين والرجلين والكتفين، وتمرغ كالجحش على الصعيد أمام "الكايد"باشاغا الذي أشار بعد هنيهة إلى خدمه ؛ فأخلوا سبيل عبد الرحمن بن إبراهيم ليغادر .
حضر عبد الرحمان ليشكر "الكايد" على علاجه له واستبقائه تحت رعايته طوال اليوم قبل انصرافه عائدا إلى بيته ، وما إن أبصره سليمان حتى طار عقله وراح يصرخ:
ها هو، ها هو سليمان يمشى حيا لم يمت ، مازال حيا ، هل رأيته يا سيدي "الكايد" ها هو، ها هو يمشى حيا لم يمت ، حيا يرزق لم يمت.
- فال" الكايد باشاغا "نعم رأيته ، إنه هو؛ لم يمت، حي يرزق، لم يمت.
- قال سليمان : سيدي'' الكايد''والقطع الأرضية والبقــ..
- يا سليمان هل تريد الدرس الثاني في علم التدبير ؟
- صرخ سليمان بأعلى صوته وهو يمزق ثيابه ويرمي بها للريح : لا، لا أمنت بطيبة الشياطين. لا، لا أمنت ببراءتها إلى يوم الدين، فاحتارت الشياطين في أمر سليمان وأشفقت عليه. وانسحبت خوفا من كيد"الكايد" وأذاه.
و في صبيحة اليوم الموالى استدعى "الكايد" كبير خدمه بالقطايع النسر الطايع وقال له: هات ما في تقريرك عن أخبار اليوم وأحوال الناس.
قال النسر الطائع : سيدي "الكايد" فأما سليمان فقد علق نفسه في شجرة بطم على طرف الغابة كانت جفت منذ سنين ، وبقيت أغصانها الرمادية مشرئبة كقرون الشياطين ، واستعاض عن الحبل بسلك ، وقد أفزع منظره الطبيعة، فثارت الرياح بشدة تنوح وتعول عويل الثكالى المرزوءات ، فتأرجحت جثته على إيقاعها ورقصت بعنف جنوني فانفصل رأسه عن باقي جسده ، وزارته الذئاب والضباع ؛ وتداعت من كل حدب وصوب تقيم المؤدبة والمأتم، وتداولت الأمر في شأنه ، واجتمع رأيها على تنظيف عظامه ، ونظرت السماء فبكت مصيره بغزارة ، و حملت سيولها ما تركت الذئاب والضباع إلى النهر فسافر بها ، أما رأسه فلم يظهر له أثر ، ويقال أنه كان ضمن ما شمله السفر ، ويقال أنه رفض الرحيل فطمر.
الضيف حمراوي 25/10/2008

النموذج ولي الامر

النموذج ولي الأمر

هو الشاطر ؛ هو من ترقى بسرعة ؛ وتسلق الدرجات كمن يتزحلق ، وأثرى بعد عام ؛ فتغير مسكنه من شقة إلى قصر ؛ وبدل سيارته الخردة  بآخر  موديل ، و حال من  اسم  نكرة معدم إلى صاحب محلات  مشهورة ، وغدا  تدفعه نزعة الغلبة وشهوة السلطة والسلطان يتزيا  بكل أزياء العظمة و مظاهرها ، يتجنب الوقوف حيث تقف العامة في المحافل و المآتم والأعراس ، ويحدد لنفسه  في حركاته  طقوسا وعادات ، وفي تنقلاته مسارات وممرات ، و يربط   مواعيده و علاقاته بفنادق راقية ، ومطاعم ومقاهي وحانات ،   له فيها حاجات ومنافع وغايات  ، يميل للوحدة  والإنفراد ليس لأنه أبو ذر الغفاري  "يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده"  ولكن لأن طبيعة الكسب ، وناتج الوظيفة والمنصب ، وضرورة التحفظ تفرض عليه ذلك وهي تكفيه شر المتلصصين ، مادام لا أحد يسال أو يجرأ  أن يسأل من أين لك هذا ؟  وهي  المساءلة المرعبة  المخيفة  التي  أدى خوف طرحها  إلى مجازر  و مسالخ بشعة أدخلت الجزائر في عشرية سوداء  ؛ لم تخف وطأتها حتى أمنت الطبقة المتميزة التي اختارها الله  وفضلها على العالمين أن العامة قد تخلت عنها مهزومة مكتفية بقناعة "من يسأل من"؟.  
الشاطر هو من يؤمن أن  لا دين ، غير دين الولاء للعصابة ، ولا مذهب إلا مذهب الانتماء للفرقة أو الفريق ، أو للحزب  أو المنظمة ، باب البنك والخزينة ؛ والصك المجاني والحصن المنيع .
 أما دين  كل الناس فهو عنده طقس من الطقوس ، وعادة من العادات  التي لا تغير من شان الفقير شيئا ؛  تخدر ولا تغير ، ولكنها قد تعزز مركز القوي ،وقد تساعد على زرع الثقة في مكان لا ثقة فيه  ذلكم هو الشخص الموهوب المرهوب الجانب ،   تلميذ صاحبي المقولتين و"من لا يظلم الناس يظلم" ، و" تؤخذ الدنيا غلابا".

ألا بئس القوم الشطار ؛وسحقا و بعدا  لهم إلى جهنم بقاع القرار ؛  ما جن ليل وهل نهار.

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

لحظة ألــم

لحظــــــــــة ألـــــم
حين يكون الظلم طاغيا؛ مؤلما؛ وفظيعا فوق ما تحتمل الروح المطحونة؛ المندسة؛ داخل الجسد المقهور.

حين يختصر الإنسان ؛ويصبح سلعة معروضة للبيع ؛ويمسخ في نظر الحكام كلبا ضالا ، وجرذا؛ أو صرصور.

حين يموت في الحاكم كل ما له علاقة بالأخلاق؛ والإحساس؛ والشعائر والمشاعر والشعور

حينها يصبح من حق الشمس أن تحتجب اكتئابا، ومن حق الأرض أن تجمد مكانها فلا تدور .

ومن حق المجرمين والزناة، أن يصيروا قضاة للقضاة، ومن حق الشعوب أن تلعن قوانينها، وأن تثور.

و أن تجتث الشر من جذوره، بحرق الطغاة؛ وأهل الطغاة؛ وما أقاموه لحكمهم من جيوش؛ ورموز؛ وقصور.

قصور الحكم في بلادي:قصر لقتل العدالة، وقصر لتقنين النذالة، وقصر لفنون العهر، وآخر لمؤتمرات الخمور.

ويطلبون منا التعقل و أن نصبر فلا نثور، وأن نترك أحوالنا تسير كما تشتهي نزواتهم؛ لا كما تقتضي الأمور.


الخميس، 10 نوفمبر 2011

* المنفى

المـنـــــــــــــــــفـى - قصة قصيرة.
كانا مرهقين متعبين، خرجا إلى طرف المدينة التي كانت تضغط بوحشية لتلفظهما إلى خارجها كجسمين غريبين، وحسنا فعلت ، لأنها سمحت لهما بقسط من الراحة ، وفسحت أمامهما المجال لمد البصر عبر الروابي والتلال التي كانت الريح تغازل حقولها العامرة ، البديعة التلوين ، فتنثني خضرتها وألوانها متموجة ؛ وتتكسر في دلال وغنج آ سر ، تنفث أنفاسها الساحرة فتنتشي الريح أكثر ؛ وتزيد في صفيرها ، تعاند الأزهار في بث عبيرها ، وتسري هبة الله في جسديهما النحيلين فينتعشان، ويفتحان رأتيهما ؛ يريدان طرد ما بداخلهما من أدران هذا الزمن الموبوء.
تنهد صابر وقال : صبا الشام جاء يقرأني السلام ، فبلغ يا صبا المغرب سلامي لأهل الشام. وقل لهم وعدا مني لبلدي باني سأعود بعد سنة، بعد مائة ،سأعود ولو بعد ستين ألف عام.
وستجتمع- بعد شتاتها في المنافي- الأرحام بالأرحام.
نظر نحوه غريب : وقال ما أسعدك يا صابر ، وما أروع حلمك الذي حققته فقد عشت-فعلا- ستين ألف عام.
- عجيب أمرك ، يا غريب ، أبث لواعج قلبي وحرقة منفاي إلى الريح فتحسدني، متجاهلا ، مأساتي ، أنا يا غريب لا أدري بأي أرض أموت ،وأي تربة ستمتص جزيئاتي...
- اعذرني يا صابر،فستين ألف عام ، عشتها أنا في الظلام ، سرتها في الظلام،بين جثث الأبناء و الآباء والأخوال والأعمام ، ستين ألف عام كلها آثام تلبسها آثام ، نسيت خلالها الفرق بين الغربان والبوم والحمام ،والفرق بين الشهيق ،والصهيل و النهيق ، والفرق بين البهائم والأنام.
اعذرني يا صابر ،فأنا أحسدك لأن في قلبك الذي يسقي وجدانك وطنا تحن إليه ؛ وتحلم بالعودة إلى مروجه و روابيه، أما أنا فاسمي غريب وبلدي عني مذ وعيت غريب، بين مخالب تنين خرافي رهيب ، فهل تضمن لي أن ينجو يوما ويحن بالعودة إلي، فأينا المنفي أيها المنفي ، المنفي الذي يعيش في منفى و بوجدانه وطن يحلم بالعودة إليه ، أو المنفى في ذاته المطرود من جميع المنافي والمهاجر ؟!! 

 الضيف حمراوي27/06/2008

الأحد، 6 نوفمبر 2011

بعض عوامل النهضة الفكرية والأدبية في العصر الحديث


عوامل النهضة ومظاهرها الفكرية والأدبية في العصر الحديث



تَعَارفَ النقاد على اعتبار حملة نابليون على مصر سنة 1213هـ/1798م بداية لعصر النهضة الحديثة ؛  باعتبار أن هذه الحملة  كانت هزة حركت عقل الإنسان العربي،  وبعثت فيه الإحساس بالمجتمع ، ودفعته إلى الشعور بالحاجة الماسة إلى ضرورة الأخذ بألاساليب الحضارية الملائمة التي  تواكب متطلبات العصر ؛ وتساعد الإنسان العربي على حفظ كيانه العرقي والحضاري.
وتجسدت عوامل النهضة وتجلت في عدة مظاهر ، وكان لها أعلام  ، يمكن إبراز بعض ذلك بإيجاز كما يلي:-
1-الأستشراق: الإستشراق هو اتجاه عام من الغربيين لدراسة البنية الذهنية والنفسية والروحية للشرق، عبر إتقان لغاته الحاملة لفكر شعوبه،  وعواطفهم؛  وقيمهم ومعتقداتهم، والتي تجسدت عبر التاريخ في آدابهم ،وثقافاتهم ؛ و تاريخهم، وعمرانهم ونظم اجتماعهم، وأنماط اقتصادهم، وقد كان الاستشراق محاولة من الغرب لمعرفة الأسباب التي أدت إلى فشل حملاته الصليبية التنصيرية التي أشعل نارها البابا إربان الأول في 27/11/1095، والهزائم التي حاقت بهم لقرون إلى أن وقعوا صك الاعتراف بالفشل مع المماليك بتاريخ 05/11/ 1270م .وقد حاول الغرب تغليف حقيقة دوافعه؛  وتمريرها بمزاعم النزعة الإنسانية التي تحتم على الإنسان الغربي - والمجتمعات الغربية المتطورة- مساعدة الإنسان الشرقي الذي يليه في رتبة الرقي مباشرة ،  قبل الإنسان الإفريقي؛ والهندي الأحمر، كونه يمتلك  قابلية للتطور أكثر من غيره من الشعوب المتخلفة.
ولكن الهدف من جهود الاستشراق كان؛  ومازال ، هو إعادة خوض الحروب الصليبية ،لكن بأسلوب أكثر عقلانية وحكمة، بناء على معرفة معمقة بطبيعة الإنسان ،والجغرافية والتاريخ الشرقي ، حازها نتيجة الصراع الحضاري الطويل الذي سمح له بالتعرف عن كثب وبنظرة اشمل ، وأكثر واقعية على الحضارة الشرقية  ، وعلى أساس المعرفة المتراكمة لديه؛  رسم الخطط؛  والوسائل العلمية والعملية للحركة الاستعمارية الحديثة، وقد قامت الحركة الاستشراقية بفضل جهود  شخصيات ، ومساعي جمعيات،  وتنظيمات مسيحية نصرانية ؛  تنصيرية كنسية ؛ وعسكرية رسمية، خططت ؛ ومولت وأنشأت مدارس، ومعاهد ؛ وجامعات استشراقية، ومراكز
 دراسات وبحوث العالم العربي والإسلامي ،  تمكنت من الاستحواذ على معظم التراث العربي؛ ,وآثاره؛  ومخطوطاته ؛ وحولته إلى المكتبات ،  والمتاحف بالعواصم والجامعات الغربية ، أكسفورد ولندن ، باريس ، ليدن بلاهاي ، برلين،  وروما وغيرها .
        قام المستشرقون الغربيون بتحقيق ونشر جزء كبير من التراث العربي ، والشرقي الإسلامي،  على وجه الخصوص ،واهتموا بدراسته ؛ وتحليله؛  ونقده بهدف فهم الإنسان الشرقي ،ورسم طرق وأساليب التعامل معه.وتهيئة وتمهيد الطريق أمام الحملات الاستعمارية الحديثة ،  بناء على معطيات علمية موضوعية ، ودراسات منهجية ؛ تزيح  عوامل الفشل التي صاحبت الحروب الصليبية  على الشرق في القرون الوسطى ، وقد نتج عن ذلك نتائج عكسية ؛  إذا كانت ؛ في جوانب عديدة منها؛  إيجابية لفائدة الثقافات الشرقية ؛ حتى وإن جاءت بطريقة عرضية غير مقصودة غالبا، مع ضرورة الاعتراف بالجميل لفئة قليلة جدا من المستشرقين الذين تميزوا بقدر كبير من النزاهة و الحياد والموضوعية في دراساتهم باعتبار أن هدفهم كان هو طلب المعرفة المحضة.
ومن أشهر المستشرقين الفرنسيين1-  سلڤستر ده ساسي (  Silvester de Sacy ) (21 سبتمبر 1758 – 21 فبراير 1838) وهو الذي ترجم البيانات التي نشرت بعد احتلال الجزائر  وكذلك عند احتلال مصر من قبل  حملة نابليون على مصر عام 1798م.
شملت اهتماماته اللغة العربية وآدابها والتاريخ والفرق والجغرافيا،  يعود له الفضل في جعل باريس مركزا للدراسات العربية ، وكان ممن اتصل به رفاعة رافع الطهطاوي.
2- جوستاف لوبون (Gustave Le Bon ) (1841-1931م). مستشرق

وفيلسوف مادي فرنسي  ، لا يؤمن بالأديان ، اتصفت أبحاثه وكتبه الكثيرة بإنصاف الحضارة الإسلامية مما جعل الغرب يحط من شأنه ، وعدم تقديره .
3- ريجيس بلاشير (Régis Blachère)
( 1900–1973 م) من مشاهير الاستشراق في فرنسا في القرن العشرين، عضو المجمع العلمي العربي بدمشق(!). تعلم العربية في الدار البيضاء (بالمغرب) وتخرج في كـلية الآداب في الجـزائر (1922م) ، و عمل أستاذاً في معـهد الدراسات المغربية العليا في الـربـاط (1924– 1935م)  ثم محاضرا في السوربون (1938م) عمل في وزارة الخارجية الفرنسية كخبير في شؤون العرب والمسلمين.
4- كارلو ناليلنو(Carlo Alfonso Nallino  )( 1872- 1938م ) مستشرق إيطالي ، درس الفلك ، وتاريخ العرب قبل الإسلام ؛  والأدب  العربي في جامعة القاهرة ومدرس اللغة العربية بمدرسة اللغات بنابولي الإيطالية.
5- ،ديفيد ، صامويل  مارجليوت   David Samuel Margoliouth    (1885 1940م)  مستشرق إنجليزي متعصب للحضارة الغربية ، ويعترف بفضله في نشر معجم الأدباء لياقوت الحموي ، ورسائل أبي العلاء المعري .
له محمد ومطلع الإسلام صدر 1905م ، و الجامعة الإسلامية صدر 1912م . وكتاب التطورات المبكرة في الإسلام صدر 1913 م .
- 6سير هاملتون جيب Sir Hamilton R. A. Gibb   (1895-1971م) مستشرق انجليزي ولد بالإسكندرية بمصر ، أستاذ كرسي اللغة العربية بجامعة أكسفورد ،ثم  بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية فمديرا لمركز  دراسات الشرق الأوسط بنفس الجامعة. له العديد من الدرسات في الأدب ،الحضارة العربية والاسلامية .
يوهان .ج.رايسكه Johann Jakob Reiske (1774-1716 م ) هو مستشرق ألماني ، اتهم في الغرب  بالزندقة لموقفه الإيجابي من الإسلام ،مات مسلولا.
كارل بروكلمان (: Carl Brockelmann) (1868-1956) أكبر باحث عرفته الجامعات الأوروبية في النصف الأول ، من القرن العشرين؛  في مجال الدراسات السامية ؛  وتاريخ التراث العربي.
زيگريد هونكه  Sigrid Hunke( 1999-1913م ) مستشرقة ألمانية معروفة بكتاباتها في مجال الدراسات الدينية، معجبة بالاسلام ، وبدورالحضارة العربية في الإشعاع على العالم والغرب.
ومن إيجابيات الحركة الاستشراقية التي يجب الاعتراف بها :
- تحقيق ، ونشر،  ونقد الفكر والتراث العربي الإسلامي وحمايته من الضياع والاندثار، وتحفيز العقل العربي وحمله على الرد على ما بدا انه عنصري ؛ أو منحاز.
- تطبيق المناهج العلمية الحديثة في التحقيق والتصنيف والفهرسة والحفظ.
- لفت انتباه العرب إلى بشاعة تهاونهم ؛ وكسلهم ؛ إزاء ثراء وتنوع وضخامة تراثهم.
2- الحركة الإصلاحية:تمثلت في موقف الرفض، واستنكار ما آلت إليه الأوضاع العامة للأمة الإسلامية والعربية  ، في مختلف الأقطار ، وفي مختلف المجالات ؛  وعلى مختلف الأصعدة ،من تخلف ، وبدع وخرافات  ، وجهل ، وجمود ؛ و تحجر للعقول، واستبداد ، وفقر، وفساد ديني وأخلاقي وسلوكي ، وفي جهود رواد الإصلاح من رجال الدين - يقودهم جمال الدين الأفغاني (1838م-1897م) ومحمد عبده (1849-1905م)، وعبد الرحمن الكواكبي(1849-1902م)، ورشيد رضا ،


وعبد الحميد بن باديس(1889-1940م)؛ ومحمد البشير الإبراهيمي (1889-1965م). وجمعيات إصلاحية ، ومنتديات وأحزاب سياسية ، كتركيا الفتاة ، وجمعية الاتحاد والترقي، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين...وتوحدت جهود الجميع على أهداف واضحة،  في طليعتها ؛  تنقية الدين على وجه الخصوص ،  والتراث عموما مما علق به من خرافات وانحرافات وشوائب،والوقوف في وجه الاستبداد والتصدي للتسلط والطغيان ، وعلى نهجهم  سار الساعون في إصلاح الميدان الفكري و السياسي  والاجتماعي،  فتأسست المدارس ،وتوسعت المساجد والكتاتيب ونشطت الحياة التعليمية ، وظهرت الأحزاب، والجمعيات الأدبية والمدنية.
3- الاحتكاك بالحضارة الغربية: بطرق مختلفة وعلى مراحل نتج عنها-
أ- التعليم والبعثات العلمية  انتشر التعليم من خلال جهود الحركات التبشيرية في المشرق وعلى وجه خاص في لبنان وفلسطين حيث أقام المسيحيون العديد من المدارس و جامعتين في لبنان: الجامعة الأمريكية سنة 1283هـ/1866م ، ثم الجامعة اليسوعية 1292هـ1875م.
أ-البعثات العلمية: تمثلت في الطلبة الذين أوفدتهم الأسر المسيحية اللبنانية إلي إيطاليا ؛ وفرنسا وغيرهما ؛ ابتداء من فترة حكم فخر الدين ( 1572-1635م) وفي من أرسلتهم مصر فيما بعد للدراسة في فرنسا بعد انسحاب حملة نابليون سنة 1802م ،وقد عادوا إلى لبنان و مصر ؛  وسائر أقاليم الشام، وباشروا التعليم في المدارس


والمؤسسات التربوية ،والجامعات ،مطبقين المناهج الغربية الحديثة في البحث والدراسة ، ونهجت بقية البلدان العربية نهج مصر في بناء أنظمتها التعليمية ، وكان من نتائج ذلك انتشار التعليم على النمط الأوربي في أقطار الوطن العربي ، فأنشأت وزارات للتربية والتعليم والثقافة ، وبنيت المدارس والثانويات،ومعاهد إعداد وتكوين المعلمين والمربين ، وضبطت البرامج والمقررات والمناهج الدراسية، فارتفع مستوى التعليم ؛  وأزداد الإنتاج الفكري؛ والأدبي؛  والفني وارتقت مستوياته أساليب ومحتويات.
ب- الترجمة: نافذة تطل منها الأمم على ما لدى غيرها ؛ وقد صاحب ازدهار الحركة التعليمية ازدهار في حركة الترجمة باعتبارها جزءا منها ؛ حيث أنشئت في عدة أقطار مدارس لتعليم الترجمة ؛  وأتقن كثير من العرب اللغات الغربية؛  فترجموا الكثير من الكتب العلمية والأدبية إلى اللغة العربية ؛ وأثروا بها مكتبات الشرق؛  وانعكس هذا الثراء العلمي والمعرفي على الفكر ؛ وفنون الأدب فظهرت المقالة الحديثة؛  والقصة ؛ والرواية ؛ والمسرحية ؛ وتميزت المذاهب الفنية ، والنقدية المختلفة ؛ كالكلاسيكية


والرومانسية ؛ والواقعية ؛ والرمزية وما إليها ؛ واكبت الإبداع الفكري والفني الأدبي وأطرته.
ج-الطباعة والصحافة
عاد نابليون إلى فرنسا وقد خلف بمصر المطبعة التي جلبها معه سنة 1798 ليطبع بها القوانين والأوامر والتعليمات ومستندات التدريس لجيشه، وبفضلها اكتسب المصريون خبرة في فن الطباعة ، ثم انشأ محمد علي مطبعة بولاق سنة1237هـ/ 1821م ، وبعدهم أنشأت المطبعة الأمريكية ببيروت، والمطبعة اليسوعية سنة 1265هـ/1848م.
وقد لعبت هذه المطابع دورا كبير في نشر التراث العربي فنفضت عنه الغبار وبعثته، و نشرت الثقافة الحديثة المحلية والغربية المترجمة، وفتحت الباب أمام المفكرين والأدباء لنشر إنتاجهم.
كما كانت الطباعة من أهم الأسباب في نشأة الصحافة بمختلف أشكالها وفنونها، فظهرت جريدة الوقائع المصرية سنة 1238هـ /1822م ، والجريدة العسكرية سنة 1249هـ/1833م ،وفي الشام ظهرت حديقة الأخبار سنة 1275هـ/1858م وتوالى صدور الصحف والمجلات بلغات متعددة في مختلف الأقطار العربية. وقد لعبت دورا بارزا وحاسما في ترقية اللغة العربية وتطويرها وتخليصها مما علق بها من عيوب ونقائص وتعقيد وتكلف وتزويق وتنميق ولفظية فارغة، بدون معنى أو بمحتويات ومضامين هزيلة لا خير فيها ، وسمتها طوال عصر الضعف والانحطاط ، وفتحت الباب واسعا لنشأة وازدهار وانتشار البحوث والمقالات والفنون ، والمذاهب الفكرية والنقدية العلمية والفلسفية والأدبية ،وتعميم المعرفة ونشر الثقافة العامة بين أفراد الشعب، وارتفعت بالذوق الفني والجمالي، وربطت مختلف الأقطار بعضها ببعض
.
4- نشأة المكتبات وإحياء التراث ونشره: حيث أن المكتبات تعد إحدى أهم سمات الثقافة العربية غير أنه يجب الاعتراف بحقيقة انه من النتائج المباشرة لازدهار فن الطباعة في الوطن العربي ، انبعاث الكتاب وانتشاره ، وفي مقدمته المصادر الكبرى ،وعيون الكتب والمؤلفات والمتون كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ،ولسان العرب لابن منظور،وتاج العروس للزبيدي ، والحيوان ، والبيان والتبيين للجاحظ ، والخصائص لابن جني وغيرها ووبفضل الطباعة صار الكتاب سلعة متوفرة للراغب في العلم والمعرفة وفي متناول الجميع بأسعار ميسورة وأشكال جذابة، فنشطت العائلات والمساجد ؛ و الجمعيات ؛ والمدارس ؛ والمعاهد والجامعات والنوادي؛  والجهات


الرسمية؛  في إنشاء المكتبات المنزلية والخاصة؛  والمكتبات العامة في المدن والأحياء ؛ وصار العلم في وسع ومقدور كل راغب فيه ؛ طالب له،فارتفع مستوى الوعي ،وترسخ انتماء الإنسان العربي والمسلم لأمته؛  وماضيه ؛ وثقافته،وتمثل بوعي هويته التي تميزه عن غيره ،وقاس وضعه بغيره من الأمم؛  والأزمنة، فاكتشف انه مطالب بالنهوض والذود عن وجوده وهويته ؛ فأصبح أداة النهضة وغايتها.
5- المجامع العلمية والجمعيات الأدبية:
ظهر أول المجامع العلمية بمصر على يد نابليون بونابرت الذي أسس " المجمع العلمي" بهدف نقل الثقافة الفرنسية وعلومها إلى مصر باعتبارها النافذة والمدخل إلى الوطن العربي ؛ وبعده أسس محمد علي " الجمعية المصرية" ثم "مجلس المعارف المصري"إلى أن تأسس "مجمع اللغة العربية" سنة 1351هـ/1932 م بالقاهرة وتلاه "المجمع العلمي" بدمشق ثم"المجمع العلمي" ببغداد.
وفد اهتمت هذه المجامع بالبحث في تنظيم الجهود وتحديد السبل الكفيلة بتطوير اللغة العربية وإثرائها بالمصطلحات و ضبط المفاهيم و التعاريف ومناقشة القضايا العلمية والنقدية والأدبية.


وإلى جانب المجامع العلمية ظهرت الجمعيات الأدبية والفنية بفضل نشاط الأدباء والمبدعين و أولها " الرابطة القلمية " في المهجر ، وجماعة الديوان التي أنشأها عباس محمود العقاد ، وعبد الرحمن شكري وعبد القادر المازني ، ثم جماعة " أبولو" ، وقد فتحت هذه الجمعيات أفاقا واسعة أمام المبدعين سمحت لهم بالإطلاع على المدارس النقدية والاتجاهات الفنية الغربية والاحتكاك بها وبسياق ظهورها وتفاعلها مع الإنسان وهمومه وطموحه ، فتفاعلوا معها بدورهم وانطلقت النهضة العربية الأدبية والفنية الحديثة وشقت طريقها الى جانب الاداب العلمية الأخرى بأقلام اكتسبت سمعة قومية وعالمية كطه حسين ، ونجيب محفوظ، وبدر شاكر السياب, والجواهري؛ وأبي القاسم الشابي ، ومفدي زكريا وغيرهم كثير.

الضيف حمراوي 29/11/2008


الثلاثاء، 1 نوفمبر 2011

أنيـن السنيــن


أنــــــــين الســـــــــنين - قصة قصيرة

          سمعت ؛ وأنا أهم بمد الخطو كي اقفز إلى الناحية الأخرى من الواد أنين روح في حالة النزع ، كان الأنين ينطلق من المقطع ، من وسط مياه راكدة ماجنة ؛ صفراء آسنة ، اختلط فيها روث البهائم ببولها ؛ و بما تلفظه مصارف المياه القذرة ، ومن وسط هذه البقعة المسكونة بعالم الفساد، وأرواح الشياطين، والكائنات الملعونة والمسحورة، كان يأتي الأنين آي .آي. آي.
          كان نعيق البوم ، ونهيق الحمير ، وعواء الذئاب المتقطع ، و ضباح الثعالب المتقاطعة ، تشكل خلفية للأنين الممزوج بحشرجة تنبيء بألم حبيس ،تحت سماء موشحة بلون رمادي، يمتد أساها ذاهبا في آفاق الفضاء.
          كان الأنين يخرج من الرمل تحت الماء أمامي ، من وسط بركة الماء الآسن الماجن ، بصقت ، واستعذت بالله ، وركزت ؛ وقد تملكتني الدهشة الممزوجة بالخوف و الرهبة ،ولأن قناعتي أن البشر خطرهم في غرائزهم  وجوارحهم وليس في أرواحهم ، تمالكت نفسي ، وتحكمت في حواسي وروضت قدرتي على الانتباه والإدراك ؛ وتقدمت أكثر ، وأنصت السمع ؛ فتحققت من منبع الصوت ،كان الصوت لشيخ هرم ؛  جاوز السبعين ؛ يعاني سكرات النزع الأخير.
           أحسست بهزة في أعصابي كادت تدفعني للفرار،  لكني غالبتها ؛ وقررت أن أبقى ؛ بل لن اذهب حتى أستجلي حقيقة الأمر.

قلت من؟ أين أنتَ؟ ما بكَ ؟ من أين جئتَ؟ ومن جاء بك؟ .
كانت فرائصي ترقص على وقع الرهبة.. كنت مضطربا غير قادر على الجزم بأنني سأبقى إلى نهاية المقابلة.
قال اسمي تعرفه، فالمقطع يحمل اسمي وفيه ؛ غرزت روحي.وكان من المفروض أن استعمله كبقية المخلوقات ؛ فأمر وأعبر وأقطع، ولكنني صرت أنا المعبر؛  وأنا الممر والمقطع.
قلت: لم افهم ؟ أأنت ؛ أنت القايد؟
قال: نعم                                          
- ماذا كنت تقود ؟
قال : كنت أقود جيوش الخيانة ، كنت رمزها ؛ كنت أنا هي ، خائن لدينه ، ووطنه ، وشعبه ، خادم لعدوه ، ظالم لنفسه ، ولأهله قدت أعدائي ؛ وأعداء شعبي ضدي ،وضد عشيرتي ، فعلت بديني وملتي ما طلبه مني أعدائي، بل زدت حتى ارتعب من شري الشر، طمست عيون الماء الزلال ، عيون الحب والأمل ، وأقمت عيون يشرب منها الحزن و اليأس، واقتلعت جذور الأمن؛  وبذرت بذور الرعب والبأس واليأس...
قلت ما بك ؟ وماذا تفعل هنا؟
قال: لقد أطلق علي يحي النار قبل قرن ، فقتلت في أسوء لحظة ، في أسوء موضع ، لأسوء الأفعال .
قاتلي جزء مني ، اسمه يحي بن سعيد ، رجل كامل العدة ، صبور عند الشدة ، أسلمت له الطير المحلقات ، وذلت لهمته المسالك والممرات ، فطوى في رحلاته المسافات . كان يحي قد ولد ليحيا ، وكنت وعدت العدو المستعمر وعاهدته على قتل كل من يحب ألحياة أو يحب أن يحي أو يحيا، فبدأت بالإساءة إليه ، وضيقت عليه ، وأغريت به أسافل الناس من عبيدي ، وأغريت كل زنيم ،وكل نذل وسفيه، ومددت يدي وبسطتها كعهدي على كل ما كان عزيزا وأثيرا لديه ، وآذيته في عرضه؛  وصادرت منه أرضه ،وأفسدت عليه دينه وشغلته عن سننه وفرضه.
وفي مساء أحد الأيام، وفي خامس عام بعد تمام القرن ، حين نضجت الشمس ،وتجرأ عليها الجميع ، وخرجت الشياطين من قماقمها، لتعبث بأرواح الضعفاء والملعونين،والمغضوب عليهم والضالين ،و الفسقة والمجانين؛ خرجت من مكتب الحاكم، بعد أن سلمته ما تجمع لدي من أخبار الناس ؛ وما صار له علي من دين، أريد الرجوع إلى مخفري ووصلت إلى هذا المقطع.
سكت برهة ...
          خرج يحي من مخبئه؛  وبيده بندقيته ؛ وصب في جوفي ما كان في جوفها ، لم يسمح لي بالتوسل؛  أو التضرع إليه ، لم يمنحني شرف مخاطبته ، كان صافي الذهن قد حدد هدفه ، كان يريد أن يجمع كل النجاسة ، كل الفساد المبعثر في الدوار ، وفي العرش، وفي زوايا الناحية في هذا الموضع ؛ هنا حيث أنام فسقطت تحت بطن البغل.
"لم يكن يحي يثأر، كان يغسل ، كان يطهر".
    وجاء الحاكم والحاشية والأهل ، وحملوا الجثة دون أن يلتفتوا نحوي؛  أو يفكروا في وجودي ، ووضع ميزان العدل ، فأحكم وثاقي في موضع خروجي ؛ ولم يسمح بعروجي، ومنذئذ وأنا أتمنى أن أموت.
الموت هو رضا الله على عبده ؛ واستعادته إليه ؛ أما أنا فْإني روح مهملة، عمياء مشلولة ؛ مشدودة بشللها إلى مكان سقوطها وانفصالها عن جثتها التي التقطت وسترت، أما أنا فمازلت هنا ؛ في العراء،عرفت جميع أنواع الصقيع ، عرفت من الآلام آلاما ... يفقدها الوصف ماهيتها، عرفت جميع أنواع الاحتراق ؛  حتى صرت أنا النار وأنا الوقود ومازلت هنا، لماذا أنا هنا ؟ ماذا انتظر؟ و إلى متى؟.
قرن ويزيد من الأنين ، أئن على أمل أن أموت، لا أحد يعرف مدى قيمة الموت،إلا من كان مثلي مات فيه الجسد وبقيت الروح مربوطة إلى المكان الذي سقطت فيه الجثة.
          منذ قرن ويزيد ، وأنا هنا حاوية لبصاق اللاعنين واللاعنات ، قد يفعلون ذلك دون قصد ، ولكن وجودي في المقطع حيث تقف البهائم؛  تشرب ؛ وتبول؛  ثم تلقي بفضلاتها فوقي ، يجعل الناس يعتقدون أن الشياطين والجن تجتمع هنا عصر كل يوم ، وفجر كل صباح؛  تجلس فوق الحجارة الناتئة؛  أوتتظلل بظلها . يتربصون بالمارة ، ولذلك تجد الناس يبصقون؛  ثم يعوذون بالله من الشياطين محاولين الابتعاد بأقصى سرعة، حتى سرت أنا هو مجتمع الشياطين ؛ والجن؛  والنجاسة ، ولم يبق من يقبل مجاورتي إلا الثعابين و الضفادع التي تقتدي بي ، حين أبدا في الأنين والنشيج ؛ فتشرع في النقيق ، وكثيرا ما تهتدي الثعابين إليها فتبتلعها أمامي وأحيانا مستريحة فوقي؛  متخذة مني فراشا أو متظللة بي ، فتنفذ أرواح الضفادع وتموت وتنفصل أرواحها عن أجسادها وترحل أمنة نحو السماء سعيدة راضية ، وأتمنى لو يؤذن لي فأرافقها ، وأحاول أن أهز بعض أطرافي ؛ فأجدني مثقلة بأوتاد يقال عنها أعمالي مركوزة في أعماق الأرض.
          منذ قرن ويزيد ؛ و الواد يحفر ؛  ويحفر ،و يغوص في الأرض ؛ فيصير أكثر غورا ، ألا انه لم يستطع أن يكشف إلا عن جزء بسيط من هذه الأوتاد اللعينة التي تلصقني بالأرض؛  وفي أنجس بقعة منها.
كثيرا ما مر بي أبنائي ؛ ومن بعدهم أحفادي؛  وأبناء أحفادي الذين من أجلهم ربطت إلى هذه الأوتاد اللعينة دون أن يلتفت أحد منهم نحوي؛  أو يجلس بجانبي ؛ يحدثني، يزيل وحشتي ؛  أو ينظف مجلسي بل يفعلون تماما كالذين أجرمت في حقهم ؛ واكتسبوا حق لعني ولعن اسمي ،وتاريخي وأعمالي ، وورثوا هذا الحق إلى أبنائهم وأحفادهم من بعدهم.
           والمأساة ؛ هي أنني تركت من بعدي ورثة ؛ أخذوا ما جمعته من متاع الدنيا، ووزعوا أكثره في وجه رياح الجنوب الحارقة ؛ وساهموا في البصق على وجهي ؛  و في لعني . وشاركت بهائمهم بهائم غيرهم في ذلك ....
         ما يزيد عن مائة سنة ؛ وأنا جالسة هنا ؛ في قلب الطريق ؛ يدوسني الرائح والغادي ، الناطق والبهيمة ؛ ولم أسمع يوما من دعا لي برحمة، أو ذكرني بغير الذم ، يل الكل مجمع على لعني والاستعاذة بالله مني  ؛ وهم يبتعدون ، وهذا ما زاد في ألمي، كنت أقبَلُ ذلك من الجيل الأول الذي عاشرته على شدة إيذائه، على أمل ألا تفعل الأجيال اللاحقة ذلك  ، لأننا لم نلتق ، ولم يصبها أذاي ، فتخف أوتادي ؛ أو تفك قيودي، غير أن كل جيل يأتي ؛  يلعنني أكثر من سابقه، لم أدر إن كان الله يسمع منهم ذلك ويقبله ، ولكنني أعرف أن ما ارتكبته من شرور يكفي كي أترك مشلولة هنا ؛ في هذا المقطع اللعين إلى الأبد.


الضيف حمراوي 27/02/2008


القول ما قالت حذام

  قا ل ، وروي ، والقول ما قالت حذام مع افتراض صدق النية، وسلامة الطوية ، فإن البصر بطبيعته كثيرا ما يخدع ، فيوقع الإدراك في الخطأ، فينقل ال...