الثيران والبشر.
في مجتمعاتنا المتخلفة القائمة على الأنظمة الأليغارشية l'oligarchie البدائية، حين تطرح إشكالية ما ، أو يتم الاحتجاج من فرد أو من جماعة على موقف ، أو ظاهرة فيها خطورة تهدد مستقبل الوطن ، يسارع أدعياء الوطنية ، المستفيدون والمنتفعون المتكسبون منها ؛ ثائرين صارخين في وجه من أثارها ، وقد كدسوا كما هائلا من التهم ؛ والشتائم والاعتراضات ، متذرعين بحجج فئوية ؛ أو تاريخية ؛أو وظيفية ؛أو اقتصادية ؛ أو دينية أو سياسية ... تميزية مستعملين أقوى عبارات الاحتجاج ؛ والشذب والإدانة ،منكرين ، نافين في عناد أن تكون أعمالهم ضارة بالوطن ؛ وبالعلاقات الاجتماعية بين المواطنين ؛ وبين هؤلاء ومؤسسات الدولة ؛ موظفين كل أنماط الاستدلال الزائف والانتهاك المتعمد لقواعد المنطق - " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مصلحون " [البقرة : 11]- وغاية ثورانهم هو دوام المفاسد ؛ كي تستمر معها منافعهم ، ولا ضير عندهم إذا استمر تدهور وضع الأمة والوطن برمته. ويبدو سلوكهم هذا في نظرهم نضالا ؛ وعملا أخلاقيا مشروعا ؛ باعتبارهم إياه دفاعا عن حقوق مكتسبة ؛ بغض النظر عن مدى استحقاقهم أو عدم استحقاقهم لها ، وبغض النظر عن مدى شرعية ؛ أو عدم شرعية الطرق والأساليب التي اكتسبت بها. ويستمر صراخهم ، وتهديدهم ووعيدهم ؛ رغم كونهم ؛ هم ؛ ومكتسباتهم ؛ ومصالحهم بالنسبة لمنفعة الوطن ، مجرد فراغ
فراغ ذاك الذي لا يرى غيره ،
ولا يجد الخير خيرا إذا لم يكن خيره
فراغ فراغ ؛
أولا ، لأن
معظمهم لا يدرك أناه ومتطلباتها إلا كما يدرك الثور أناه - يعيش مكتفيا بذاته idios -"سجين تصوره الخاص للعالم ، عاجزا عن إدراك تصورات أخرى ممكنة " ؛ إدراك ببعد واحد هو الأنا
المسجونة في قفص اللحظة ، وفي شهوة الجسد ''الانا الفزيائي"، مع انفصال تام عن الأنوات الأخرى التي يستحيل
تقييم الذات في غيابها، وهو رغم كل ذلك يعتقد أنه يمتلك الحقيقة كلها ، ويتفوق على الجميع ، وهو مستعد للموت من أجل ذلك (الاستعداد لكل اشكال العنف) .
وثانيا ،
لأن غياب الوعى لدى هؤلاء بجدوى وجود الآخر
،و أساليب التواصل الإنسانية معه ، وبفعل سيادة الفراغ في وجودهم ، مع توفرهم على أسباب القوة التي تبعد عنهم خشية العقاب،
في حال وجودهم في مناصب القرار ، أو في حال شعورهم بالحماية التي توفرها الفئة أو القطيع ،
يفسح المجال لديهم لتبني خطابات فارغة ، تشبه خوار الثيران تماما ، في الأوضاع التي تحتم التصدي لمشاكل
وإشكاليات المجتمع ، بل يتجاوز الأمر عندهم ذلك إلى استعمال أدوات القمع ، والبطش ، حتى تغلق كل النقاشات أو الاحتجاجات الداعية الى إعادة النظر في القضية ، أو التراجع عنها ، أو
على الأقل تكيفها بطريقة تقلل من خطورة نتائجها.
والسؤال هل عناد الثيران ، وإنكار الواقع و تجاهل
الآفات و المفاسد و الأخطاء أو الجرائم يلغي وجودها ، أو
يغير من طبيعة حقيقتها ؟ أي هل استمرار الآفة يجعلها فضيلة ، وهل نجاح المخطئ أو نجاته يجعل الخطأ صوابا، وهل إفلات المجرم من العقاب يجعل الجريمة عملا شرعيا ؟ . وإذا كان
ذلك مستحيلا عقلا و أخلاقا مع أمكانية تحققه في الواقع أحيانا بل غالبا ، فهل الاعتراض على من يستنكر أعمال الشر كيفما كانت ،
وإجبار الناس على السكوت يمكن أن يعد حلا
للإشكالية أو علاجا للظواهر المقيتة ؟. بل وهل يمكن اعتباره خروجا منها
يتيح التفرغ لغيرها ،أو التفرغ لممارسة الحياة العادية في هدوء واستقرار؟
وهل السلوك الفاشي القمعي
الذي يتعامل به الماسكون بأمور السياسة ، العابدون لإله السلطة والمال الفاسد غالبا، لا يشركون
به أحدا من جهة ، و(الراسخون) في علوم الدين التراثي السلفي ، الرافضون لكل ما هو إنساني ، (العالمون) بكل ما يريد الله ، وما لا يريد من جهة ثانية ، يمكنه أن يؤسس لدولة ؛ أو مجتمع لهما مقومات الحياة ؛و جديرين بالبقاء؟ خاصة مع التخلف
العلمي ؛ والثقافي ؛ والحضاري ، والعجز الاقتصادي المهيمن؟ .
كل من الفريقين أفة مهلكة ؛ سواء
أإتفقا أو اختلفا ، لأن جل ما يمكنهما فعله
هو تضليل العامة ؛ للإمعان في استغلالها ؛ وامتصاص
دمائها ، فكلاهما يراها دهماء قاصرة عقل ودين؛ ولا تفقه شيئا، وليست جديرة بالاستقلالية ؛ لا في
الفكر ؛ ولا في التعبير ؛ ولا في العمل.
والحقيقة أن العامة هي كذلك فعلا
، فهي كائنات مدجنة ؛مروضة؛ مطوعة ؛ مستسلمة، وفق متطلبات ومواصفات "الغباء المبرمج" المرغوب فيه ؛ والمخطط له، والمنجز بواسطة وسائل إعلام وتثقيف خادمة لغايات مرسومة من قبل شركات الساسة ؛ واللصوص ؛ والمال الفاسد ؛ والجهلة المنحطين المختفين وراء الألقاب الخادعة ، و أصباغ التجمل المصطنعة، وبأساليب قمعية متنوعة ، ولغة يومية تعتمد المغالطات المنطقية منهجا وسلوكا ؛ وكتائب المرتزقة من أشباه المثقفين، ورجال الدين .
عامة مسلوبة الإرادة ؛ مشلولة التفكير ،ترتزق وتعيش وتعبد وفقا للعادة ، وتسبح في اللامبالاة ،وترضى بالمبتذل والمزيف والمغشوش ، لا تستطيع تفسير أحلامها ،وتعد المفسر لها بطلا ، ولا تفرق بين الحلال والحرام إلا حسب ما يروى لها، ولا يمكنها أن
تتزاوج ؛ أو ماذا تفعل ، أو تقول إذا باشرت أمرا من أمورها ، في شؤن الحياة أو الموت بدون رجل الدين. ؛ وهي تؤمن حتى النخاع بحرمة انتقاد الدين ، أو رجال الدين ، وإن انتهكت أحكامه في سلوكها بشيء من الحرج أو بدونه ،قطيع يتحرك ويثغو ويخور حسب رغبة رعاته الذين لا يراهم ، وهو لا يدري أن أمر مصيره لا يهمهم ؛ إلا بالقدر الذي يحقق مصالحهم وفقط ،ويمضي حياته يتسلى عن شقائه الحالي بقوله: إنه شقاء الحياة ، ملؤه التعاسة بلا جدال ؛ لكنه لا يشبه شقاء ماضيه أو شقاء أسلافه
وهي عامة لا تعرف القوانين التي وضعت
لتحكمها ، ولا تعرف كيف تحترمها ، أو لماذا
تحترمها ؛ ولا تستطيع أحترامها في غياب قمع
السلطة ، وهي لا تعرف لماذا انتخبت أمس المسؤول الذي تنتقده ؛ وتشتمه ؛ وتتبرأ منه اليوم ، وهي لا تعرف إن كان قد نجح بفضل
الأصوات التي منحتها له ؛ أو بفضل تزوير أصواتها لصالحه ؛ ولكنها تؤمن حتى النخاع في حق السلطة في استعمال القمع ضد خصومها ، ولكنها في جميع حالاتها عجينة للفريقين المذكورين : الساسة ، ورجال الدين ؛ الذين سخروا السلطة ؛والمال ؛ والدين لتشكيل هذا النوع من البشر
المفترض أن الإنسان كائن واع
، صبور لكنه خواف ”الخوف من الشر أقوى بكثير من احتمال
الخير كأساس للأفعال الإنسانية"(جون لوك)، خاصة إذا كان يدرك أن "عالمنا الحديث هو عالم المظاهر الخداعة" (جيل دولوز)، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعيش أبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل ، وهو بحكم وعيه يريد ؛ أو على الأقل
يأمل ويتمنى ألا تتكرر ألام ماضيه وحاضره في مستقبله ، وخاصة إذا كان على معرفة
بمصادر هذه الألآم ؛ وأسبابها ، والممارسات التي أفرزتها ، فهو يشعر أنه مسؤول بطريقة
أو بأخرى عن مصيره ، وعن مصير غيره ممن هم
على شاكلته، بل يشعر أنه مسؤول على
مصير خصومه ومعارضيه الذين أعمتهم
ألأنانية والغرور، لأن أحداث
التاريخ ووقائعه أثبتت أن المكتسبات غير المستحقة التي تتم حيازتها في ظل الظلم
والاستبداد ، قد تُنسَف في أي لحظة ،كسجن الباستيل ،أو ملك القذافي ،أو سطوة صدام،
وقد تَنسِف معها الوطن ؛ إذ المعروف أن لتحمل الآلام عن الكائنات الحية عتبات إذا
تجوزت، تحول سلوك الفرد أو الجماعة إلى رد فعل غير إرادي غايته حفظ البقاء بأي
وسيلة، وعندئذ يُحَيد العقل جانبا ، وتمسك الأحقاد والضغائن والرغبة في الانتقام بزمام الأمور، وتتولى توجيه الرشاشات والمدافع
والصواريخ صوب من كان سببا في الأذى ، وصوب
كل من سانده ولو بالتغاضي والسكوت، وحينئذ يواجه الشر بالشر، ويتحول الكل إلى ركام
وعدم . وفي هذه الحالة من الفوضى لا أحد يستطيع التنبؤ بمصيره ؛ أو يمكنه أن يتحكم
فيه بالطريقة أو الخطة التي سبق له إعدادها ، فجميع من دارت على رؤوسهم
الدوائر كانوا قد خططوا ورتبوا طرقا للنجاة، لهم ولأبنائهم وأقاربهم ،فأعدوا جيوشا
تحميهم ، واقتنوا طائرات وبواخر ؛ وهربوا مبالغ ضخمة من الأموال الى بنوك الغرب ،
واقتنوا في عواصمه القصور ؛ بل والأراضي والضياع
والمزارع
؛ وحين أزفت الساعة ، كانت خسارتهم
خسارات : خسروا شعوبهم ؛ وأرواحهم ؛ وحرياتهم وأموال شعوبهم التي هربوها. وتوحدت
الصيرورات في البؤس : صيرورة الحاكم المستبد والمواطن المستعبد.
وبالتالي ينبغي على
الانسان ككائن أخلاقي أولا ، وكمسؤول تعهد مختارا بتحمل كامل مسؤولياته التي يرتبها عليه منصبه ووظيفته الاستماع إلى كل قول ،أو صراخ ؛ أو
إشارة احتجاج تصدر عن الآخر المغاير، أو عن الخصم
متى كانت تعكس بصدق وعفوية حالة تألم ولدها الظلم والإجحاف والتسلط،، وعدم
قبول أي دعوى تبرر وجود مسببات الألم ، خارج إطار عدالة يقضي بها قضاء كفؤ ، حر ،
نزيه ومستقل ، لأن الذي تعود احتمال الألم لن تستطيع بعد ذلك تخويفه أو إرهابه ،
لأنه يكون قد أصبح هو الإرهاب نفسه ولا يعدم حينئذ مبررا أو نصا شرعيا لينطلق في
الهدم والتخريب وتعميم الألم.