الخميس، 29 ديسمبر 2011

صلعة القرد ثدي للمص

                      


    كان الشويك ينتظر واقفا،بجانب الربوة التي تشبه صلعة قرد هرم- وتحمل ذات الاسم - وقد ضاقت روحه وتقلص العالم من حوله.
-
آه، لولا..... لأشعلت هذه السدراية وألقيت بنفسي في قلبها.
- نهاية رائعة قالت الربوة التي تشبه صلعة القرد. جملة تخيل شويك أنه سمعها من ناحية ما ، هناك .
  
لكن ذلك سيكون نهاية بالنسبة لي أنا أيضا ، لأن موتك سيفقدني كل قيمتي، فقيمتي كلها قائمة على تمسكك بي،وتمسك شعيب .
  و
خوفا من أن يكون قد مسه مس ، جعله يسمع الربوة تحدثه  ؛ سار مبتعدا عنها .
- شعيب اللعين ، ها هو قد أقبل يسبق السيد المحضر القضائي ؛ صاعدا نازلا بين يديه ، قافزا من حافة الدرب إلى الحافة الأخرى كجرو ثعلب لعين .
تمنى لو اشتعلت كومة السدرالمركونة من تلقاء نفسها ، وكرمه الله بمدد إلهي لألقي في قلبها شعيب اللعين،والمحضر القضائي ، وكل الوثائق، والعقود والأحكام القضائية والمحاضر العبثية ، التي أنتجها الخصام العبثي الطويل، فاسحا المجال للسلم والأمن كي يستقر على هذه التلال والروابي.لكن هيهات
وصل الموكب اللعين ، وبدأت المعاينة والاستجواب.
- لمن الربوة؟
- الربوة لي ، ورثتها عن أبي ، وأبي ورثها عن جدي ، وأنا أربط فيها حماري باستمرار منذ أن كان جحشا يرضع ضرع أمه و لا يأكل العشب حتى أصبح هرما كما ترى.
- قال شعيب : ها أنت تعاين التعدي بأم عينك يا أستاذ .
- هل وجودي فوق ملكيتي تعد أيها الوقح؟.
- اسمعا ، لا أريد أن أسمع هذه الشتائم ، فأنا أمثل العدالة الموقرة ، وعليكما احترام العدالة.
- عفوا ولكن...
- واصل
- يربط حماره بملكيتي يفسدها بروثه وبوله، ويدمر هدوءها بنهيقه.
- تقول ملكيتك أيها اللع....
- اسمع ، اصمت دعه يتحدث ، سيأتي دورك ، لا تضيع الوقت ،وقتي ثمين..
- عفوا سيدي المحضر، لكن....
- واصل
- بينما يقضي هذا الظالم المعتدي يومه ممدا على رملها ،معرضا جسده الضخم لأشعة شمسها الدافئة ،متوسدا هراوته التي يشهرها في وجهي كلمارآني.
- منذ متى بدأ تعديه؟
- منذ سنوات، وقد رافعته أمام العدالة ؟.
- وماذ كسبت من العدالة أيها النذل الكذاب.
- أنت النذل الكذاب ، احترم نفسك.
- اسمعا ، اسمعا ، لاأريد أن اسمع هذه الشتائم ، فأنا ....
- عفوا يا استاذ
- وماذا قالت العدالة؟
- ها هي أحكام العدالة، لقد أدانته بالسجن.
- أنا أيضا رافعته أمام نفس العدالة وقد أدانته بالسجن ، هاك الأحكام.
- لا ، أنا لا أنظر الأحكام، أنا لست قاضيا، أنا عين القاضي وأذنه، أنا رجله وجلده.
- قل هل هذا حمارك ؟نعم.
- هل تعترف بذلك ؟
- نعم.
- أرجو يا أستاذ أن تسجل في المحضر وجود روث الحمار فوق الربوة، القديم منه والجديد ، لأن القاضي سبق أن برأه لعدم إثباتك في المحضر السابق وجود الروث فوق الربوة .
قال القاضي في حكمه، أن إقرارهذا الظالم بربطه الحمار فوق الربوة غير كاف لإدانته، لأن المحضر القضائي لم يثبت في محضر معاينته وجود روث الحمار فوق الربوة.
- ها قد أثبت وجود الروث فوق الربوة، هل بقي شيء آخر.
- والآن حان دوري يا ستاذ .
لا ، فالأمر الذي عندي ، يأمرني أن أسمع تصريحات السيد شعيب ، وأسجلها ، وأعاين مدى صحة ما يصرح به فقط. ولا أستطيع مخالفة الأمر ، أو الزيادة عليه.
في طريق العودة ، سال السيد المحضر القضائي شعيبا:
- يا شعيب بالله عليك، لمن الربوة؟ هل هي لك أم للشويك.
- نظر شعيب إلي السيد المحضر بحزن وأسى يعجز المدى عن استيعابهما ، ثم أدار وجهه و ضغط بيديه على مقود السيارة الهرمة التي كانت تتدحرج في الدرب، محدثة ضجة غطت على نهيق الحمار المودع فوق الربوة .
- أتوسل إليك بالله يا شعيب أن تخبرني بصدق ، لمن الربوة؟.هل هي لك أم للشويك؟ .
- لا أستطيع أن أخبرك الصدق يا أستاذ.
- لماذ ،سأبقي ما تقول سرا ، أقسم لك بالله ، وبكل عزيزعندي.
- دعك من القسم ، فقد أصبح القسم مطية . الجميع يقسم ،
و أكذب الناس على الإطلاق ، المقسم بأغلظ الإيمان ليمتطي المنصب ثم يفعل مايشاء.
مرت فترة من الصمت مر خلالها شعيب بسحابة كثيفة من الغضب الشديد ، وتساءل بينه وبين نفسه - ماذا لو يقرر الآن الفصل في القضية بتوجيه السيارة نحو منحدر سحيق ؟. وآلمه أن يحمل كل هذا الظلم المر معه إلى قبره.
- هل حقيقة لا تعرف-يا سيدي المحضر- لمن الربوة " صلعة القرد"؟
- ومن أين لي أن أعرف؟.
- كنت أعتقد أنك تعرف، وأنك قد عرفت ذلك منذ أمد بعيد.
- كيف ، ومن أين لي..؟
- الربوة يا سيدي المحضر ليست لي ،وليست للشويك ؟.
- هل تتخاصمان على ملك الغير؟
- نعم، تلك هي الحقيقة المرة الثابتة التي لا يريد أحد الاعتراف بها.
- من صاحبها بالله عليك.
- الربوة ياسيدي ، ملك لك ولشركائك.
- ضحك السيد المحضر، وقد لاح شيئ من الحنق والغضب على ملامحه ، وهم بالرد.
- عفو، ياسيدي ، أقسم أنني أقول لك الحقيقة عارية خالصة.
- أتهزأ مني ، كيف تكون الربوة لي، وأنا لست طرفا في الخصومة الدائرة حولها ، ولا مطلب لي فيها.
- عفوا سيدي المحضر، أجبني أنت هذه المرة بصدق.
- هل تجد شخصا- مهما كان، وليستغلها لأي شأن يراه نافعا له- على استعداد ليستأجرها بألف دينار للسنة الواحدة؟.
- وماذا يفعل بها وهي أرض قمرية لا تنبت شيئا؟.
- إذا وجدت هذا الشخص ، فأنا من الآن ، وبموجب محضر إقرار مني أمامك ، على أتم استعداد للتخلي عنها وبصفة نهائية وإلى الأبد ، لفائدة الشويك.
- أسألك سيدي المحضر ، وأرجو ان تجيبني بصدق: كم مرة أحضرك الشويك لتحرير محاضرمعاينة وإثبات حالة ، خلال هذه السنة فقط ؟ وكم محضرا حررت بشأنها بطلب منه؟
- سبع مرات ، أي سبع محاضر.
- ألفا دينار أتعاب لكل محضرمعاينة، أي أنك حصلت بفضلها على أربعة عشر ألف دينار منه خلال السنة، ومثلها أخذته مني في نفس الفترة، وعلى نفس العدد من المحاضر.
- نعم هذا صحيح.
- ولست وحدك الذي تمتهن المص، فما أنت إلا المنطلق، ودون النهاية تشيب الأجنة.
- فلمن هي أذن، ولمن ثمارها، يا سعادة المحضر؟
- ماذا تريد أن تقول؟.
- حين تجد مظاهر الثراء والبذخ قد لاحت على وجه أحدكم ،أو على جدران مؤسسة لها علي وعلى الشويك سلطة....
صمت ونظر من زجاج نافذة السيارة المهترئة الراقص ، فأبصر كلبا يبلع فضلات أمامه ،مبرزا أنيابه لكلب أعجف وراءه يلحس مؤخرته طامعا في تحصيل ما يمكن أن يتسرب... تجاوز المنظر، و أدار رأسه صوب محدثه ، نظر فيه بوجه امتصت ملامحه الظلم حتى الثمالة، وامتصه الظلم حتى فقد ملامحه بشرية .
- أريد أن أقول: إن الربوة ، وكل قطعة أو عقار ،ساقه سوء حظ أهله ، أن يدخل إلى سوقكم ، لن يبقى ملكا لصاحبه، وإنما يصبح ملكا لك ولأمثالك، ممن يشكلون دواليب جهازكم الرهيب الذي لا يدور دون أن يطحن لحوم، وعظام ، ودماءالأبرياء، ويمتص نخاع البسطاء الأغبياء ، مثل شعيب المقهور، وشويك المغرور ،وكل الذين يلجئون إليه بحثا عن العدالة التي أهدروها بأيديهم بين يديه.


الضيف حمراوي 01/02/2011



الواقعية في الأدب.

الواقعية في الأدب  1848م....
مذهب فني وأدبي يصور واقع الحياة في حركته وتطوره التاريخي كما هو بخيره  و شره، بحسناته وسلبياته بجماله وقبحه  دون تدخل من الأديب الذي يجب عليه ان يقف  موقفا حياديايراقب وينقل ما يلاحظه معتمدا على مهارته في التحديد و الفهم و التحليل و قدرته على التشخيص و النقل و التصوير؛ دون أن يعدل ، أو يجمل شيئا من الواقع و يقدم ذلك  من خلال شخصيات نموذجية ؛ تعكس الواقع في أوضاع نموذجية دون أن تفقد فرديتها ؛ وثراءها الحسي والانفعالي. والواقعية كمذهب لا تعارض الرومانسية ولا تعاديها وإنما تحد من غلوائها وتطرفها .
أسباب ظهور الواقعية:
ظهرت الواقعية بفعل تأثير مجموعة من العوامل التي تجمعت في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر من أهمها:-
الحركة العلمية و الفلسفية : التي زودت الإنسان بمعلومات هامة عن مكونات السلوك البشري؛  من استعدادات ؛ و ميول ؛ و دوافع ؛ و آليات مختلفة و مترابطة : فيزيولوجية؛ و نفسية وجدانية ؛ واجتماعية.
 كما قدمت الحركة العلمية والفلسفية التي ازدهرت في هذه الحقبة التاريخية من جهتها  مناهج و تقنيات جديدة للبـــــــحث و الدراسة.
فشل الحركة الرومانسية:
  في تحسين الوضع البشري ؛بسبب مبالغاتها في المثالية ؛ و إغراقها في الذاتية؛  و إمعانها  في الخيال و تغليبها العاطفة والحلم على الواقع والعقل و الحقيقة وبالتالي خلقت نوعا من الانفصام بين قيم الإنسان في واقعه  ،وبين حياة  وقيم النماذج البشرية التي تتحرك في القصص والروايا والقصائد الرومنسية .
 
  نمو الوعي بحقيقة أن الفن مرآة عاكسة للواقع:  ترى الواقعية الغربية أن الواقع شر،  ووبال في جوهره، وأن ما يبدو خيراً لأول  وهلة ليس إلا بريقاً كاذباً، وقشورا لامعة تخفي تحتها الأنانية والشر والنقمة والنفاق الفردي والاجتماعي . و أن الأحلام والأوهام والعواطف  والأساليب الرقيقة لا تغير شيئا في هذا الواقع  ، مع تفاوت بين النقاد والأدباء في تقدير الادب والفكر الرومانسي  مما نتج عنه  أن تنوعت الواقعية فغدت اقعيات  وأشهرها :-

أ- الواقعية الاجتماعية:
وخير من جسدها "أونوريه دي بلزاك""1799 ـ 1850". الذي ترك أكبر موسوعة في الأدب الواقعي، وهي تشمل نحو مائة وخمسين قصة، أطلق عليها في آخر حياته اسم: "الكوميديا البشرية"، وتندرج تلك القصص ضمن الواقعية الاجتماعية والنقدية.وهي واقعية تصب اهتمامها على تصوير المجتمع كما هو بخيره وشره بحسناته وسييئاته،بفضائله ورذائله .
ب- الواقعية النقدية
: وتنصرف أكثر ما تنصرف إلى كشف  وتحديد آفات وعيوب المجتمع وشروره وتناقضاته بصدق وموضوعية وحياد، دون أن تكلف نفسها عناء البحث عن  الحلول أو سبل  العلاج ، لأن ذلك موكول في رأيها للرأي العام و لرجال السياسة والحكم ، والمختصين في  التربية والدين والإصلاح. ومن أشهر أعلامه  في الغرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين بالزاك الفرنسي وديكنز الإنجليزي وغوغول الروسي وقد نددوا وفضحوا وأدانوا في كتاباتهم "بحكم ملاك الأرض الجائر، وبالغرائز الوحشية للبرجوازية ، وتعصب الكنيسة، وفجور المسؤولين البيروقراطيين ،كما صوروا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة احتجاج ونضال الشعب". ومن أبرز ممثلي هذا التيار من الواقعية في القرن العشرين الأمريكي إرنست همنغواي وغراهام غرين " وقد كانت الأثار الفنية للواقعية النقدية ذات قيمة عظيمة لتيار الواقعية الاشتراكية" الذي سيظهر فيما بعد.

ج- الواقعية الطبيعية:
وأول من ابتدعها هيبوليت تين Taine, Hippolyte Adolphe "1828 ـ 1893م" وهي واقعية تلتصق بالمادي والملموس؛  وتستعين بالعلوم التجريبية؛  وتطبق نظرياتها ونتائجها في الإبداع الأدبي ؛ وبخاصة في القصة، ورائدها الأول هو أميل زولا "1840 ـ 1903م"، الذي يرى أن القصة ليست مجرد ملاحظات يسجل الكاتب فيها ما تأتي به الحياة تلقائياً، بل هي تجربة ذاتية،  ينشأ عنها العمل الأدبي وينبثق ، والتجربة الأدبية عنده هي أساس الأعمال الفنية،  ويعد حكمها وتطبيقها أمران لازمان في تقويم تلك الأعمال والحكم عليها.
د- الواقعية الاشتراكية:
وهي خلاصة الفلسفة الماركسية في الأدب وخلاصتها:أن التزام الفن ومن ضمنه الأدب بتحقيق أهداف الطبقة العاملة والنضال في سبيل تحقيق الاشتراكية هو رسالة الأديب وغاية الأدب. ، ولذلك فمعظم أبطال هذا التيار من الواقعية وشخصياته و أحداثه وقيمه تستمد من العمال  وأحيائهم  ,أماكن تجمعاتهم وميادين عملهم ، وأدوات  وعلاقات الإنتاج و صور الصراع ضد الطبيعة وضد الاستغلال ومن أعلامها الكاتب الروسي  مكسيم جوركي في روايته  الشهيرة "الأم"  وغيره من أدباء البروليتارية 

وقد أنتجت الواقعية بأنواعها المختلفة أدبا موسوعياً ضخماً، يتمثل في قصص "هنري دي بلزاك - Henri de Balzac  (1799م-1850م) "جي دي موباسان   Guy de Maupassant(1850م-1893م)و " وجوستاف فلوبير Flaubert " (1821م -1880م) .
ولقيت الواقعية بعض التفسيرات الجديدة التي تباين المنطلق الأساسي الذي صدرت عنه، وهي تفسيرات تزعم أنها لا تملي على الواقع شيئاً، ولا تزور في حقيقته، بل تكشف عنها. وتلاقت هذه التفسيرات مع الأصل الفلسفي للواقعية في جانب، وتباعدت عنه في جوانب أخرى، فهي ترى أن الواقع ليس إلا الصورة الذهنية التي لدينا عن الحياة، وتقول: إن أي شيء لا يتخذ وجوده إلا من الصورة الذهنية التي لدينا عنه، وهي بذلك لا تختلف عن الأصل الفلسفي للواقعية، غير أنها لا تتفق معها في التشاؤم والسلبية واليأس من الخير. وتدعي أن الصورة الذهنية ملك للأديب، فهو يستطيع أن يعطيها اللون الذي يريد ويرى فيه مصلحة المجتمع، وبالغت في هذا، وتطرفت حين زعمت أن في استطاعتنا أن نسيطر على مصيرنا بالتزام المذهب المادي المحض، واعتبار الأدب مسألة اجتماعية تلغي وجود الفرد واستقلاله في غمار الجماعة التي ينتمي إليها.
الواقعية في الأدب العربي :
والأدب العربي الحديث لم يكن بمنأى عن تيار الواقعية، ولكنها ليست بواقعية الشر والسلبية والتشاؤم، بل الواقعية التي تصور مشاكل المجتمع وتقاليده وعاداته، وإبرازها في صورة أدبية تكشف عن أسراره وخفاياه، فالإنسان كفرد أو كمجموعة فيه جوانب خيرة و جوانب شريرة و الخير فيه هو الأصل و الشر استثناء تولده الضغوط و يزول بزوالها و لذلك فعلى الأديب أن يكون عين المجتمع الراصدة التي تضعه أمام حقيقته بخيرها وشرها ليتمكن من اكتشاف العيوب ومعالجتها واكتشاف الحسنات و تدعيمها ونجد ظلال هذه الواقعية عند كثير من الشعراء كحافظ إبراهيم، ومعروف الرصافي. وعند كثير من القصاص كنجيب محفوظ في ثلاثيته "قصر الشوق، وبين القصرين، والسكرية"، و"خان الخليلي"، و "بداية ونهاية" ، وتوفيق الحكيم "عودة الروح" ، ويحيي حقي "قنديل أم هاشم" ، وإبراهيم المصري "صور من الإنسان"، وطه حسين"شجرة البؤس، ودعاء الكروان" ، والمازني "إبراهيم الكاتب". ولا تزال الواقعية تحتل مكاناً بارزاً في أدبنا العربي، وفي الآداب العالمية على الرغم من وجود تيارات أدبية جديدة.
 خصائص الواقعية
الواقعية حركة فنية أدبية ظهرت في أوروبا.
اكتسبت الكثير من خصائصها نتيجة للمحيط العلمي والثقافي الذي ظهر فيه ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر 1848م وعلى وجه خاص التأثر بالأسس المنهجية التي سيطرت على العلماء والمنظرين وبالإنجازات العلمية وظهر هذا التأثر في اعتماد الأدباء - خاصة الروائيين منهم - مناهج العلم في ممارسة الكتابة ويظهر ذلك في اعتماد الموضوعية والحيادية في فرز الظاهرة وتحديدها ، وفي الملاحظة والوصف والتحليل والتعليل ؛ وتوخي الدقة في التعبير كابحا عواطفه الذاتية من ان تتدخل تماما كما يلاحظ البيطري الحيوان وهو يسلك أو عالم النبات النبتة وهي تنمو وترتب على ذلك جملة من الخصائص منها.
-
 تقديس العقل والحقيقة والواقع.
-
 البحث عن الحقيقة وإدراكها (بالعقل) مع إمكانية توظيف العاطفة والخيال كوسائط إدراك معززة للعقل بوصفهما معطى موضوعيا لا يمكن نكرانه لكن مع التحجيم الذي يدفع عنهما غلو المدرسة الرومانسية.
-
 الأديب حيادي بالنسبة لمواقف أشخاصه وخياراتهم ومسارات سلوكهم التي تحددها طبيعة الشخصية وطبيعة الصراع وأنماط استجاباتها للتحديات والعوائق التي تقف بينها وبين استعادة توازنها.
-
 الأدب عدسة كاشفة ذات مرآة عاكسة لواقع الحياة كما هي بكل عناصرها وعلاقاتها المتداخلة والمعقدة.
-
 عدم التكلف أو التزيد والمبالغة في الأسلوب والوصف والعرض.
-
 البساطة والوفاء للحقيقة الواقعية التي يستخلصها الكاتب من ملاحظة السلوك البشري وعلاقات الناس ونقلها كما هي دون تعديل أو تحسين ليمكن المجتمع من رؤية صورته الحقيقية كما هي دون تزييف أو تحريف.
-
 احترام الحرية الفردية وخياراتها في حدود الواقع والممكن. –
-
 الفن الغالب الرواية ثم القصة القصيرة
-
 شخصيات أحداث العمل الواقعي آنية واقعية مستمدة من حياة الناس "هنا والآن"
اللغة المستعملة لغة الناس العادية في حياتهم العادية.
-
 رفض كل ما هو أدب رسمي مثقل بالقوانين والقواعد الملزمة (لرومانسية)

                                          
الضيف حمراوي








الأحد، 25 ديسمبر 2011

كفكف دموعك...


كفكف دموعك وانسحب يا عنترة
رغم أن عنترة عندي لا يشكل قيمة ذات أهمية ، ولا نموذجا يستحق التمجيد فما هو إلا  عسكري عربي منبوذ مرتزق  حدود إدراكه وطموحه محصورة بحدود قبيلته ، وجد في سلاحه  مطية  بنى بها مجدا على جثث الآخرين  ومازال نموذجه المأساوي يتكرر  حتى الآن فهو صدام حسين وجيشه ، و معمر القذافي وكتائبه ؛ وبشار الأسد وشبيحته، وبن علي زين العابدين مع فارق الفرار ؛ و .... كل من بنى مجده بحد السلاح يشهره في وجوه بني جنسه ، وعلى كل؛  لم يخلد عنترة لفروسيته ، ولا لشجاعته؛  وإنما خلد منه الشق الإنساني "الشاعر المحب ذاك الحب الطبيعي الصادق العفيف لأعز حبيبين له عبلة ؛ و حصانه"  وهما العنصران اللذان جعلا منه رمزا، وقد أعجبني الشاعر المصري مصطفى الجزار حين عبر عن همومه الحضارية عبر هذا الجانب من شخصية عنترة  في قصيدة له بعنوان " كفكف دموعك وانسحب  يا عنترة" هذه أبياتها

  كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترَه                  فعيونُ عبلةَ أصبحَتْ مُستعمَــــرَه
لا ترجُ بسمةَ ثغرِها يوماً، فقــــدْ                       سقطَت من العِقدِ الثميـنِ الجوهــرَه
قبِّلْ سيوفَ الغاصبينَ.. ليصفَحوا               واخفِضْ جَنَاحَ "الخِزْيِ".. وارجُ المعذرَه
ولْتبتلع أبياتَ فخرِكَ صامتـــــاً                        فالشعـرُ في عصرِ القنابلِ ثرثــــرة
والسيفُ في وجهِ البنادقِ عاجزٌ                     فقدَ الهُويّةَ ؛والقُوى؛  والسيطــــــــرة
فاجمعْ مَفاخِرَكَ القديمةَ كلَّهـــا                        واجعلْ لها مِن قاعِ صـدرِكَ مقبـــرة
وابعثْ لعبلةَ في العراقِ تأسُّفاً                       وابعثْ لها في القدسِ قبلَ الـــغرغرة
اكتبْ لها ، ما كنتَ تكتــــــبُه لها                    تحتَ الظلالِ، وفي الليالي المقمـــرة
"يا دارَ عبلةَ" بالعراقِ "تكلّمي"                     هل أصبحَتْ جنّاتُ بابلَ مقفـــــــــرة؟!
هل نَهْرُ عبلةَ تُستباحُ مِياهُـــــــهُ                    وكلابُ أمريكا تُدنِّـــــس كوثـــــــــرَه؟!
يا فارسَ البيداءِ.. صِرتَ فريسةً                    عبداً ذليلاً؛ أسوداً ؛ ما أحقـــــــــرَه!!
متطرِّفاً.. متخلِّفاً.. ومخالِفــــــا                     َنسَبوا لكَ الإرهابَ.. صِرتَ مُعسكَرَه
عَبْسٌ.. تخلّت عنكَ.. هذا دأبُهم                     حُمُــــــرٌ –لَعمـــــــرُكَ- كلُّها مستنفِرَه
في الجاهليةِ.. كنتَ وحدكَ قادراً                    أن تهزِمَ الجيشَ العظيمَ وتأسِــــــــرَه
لن تستطيعَ الآنَ وحدكَ قهـــرَهُ                     فالزحفُ موجٌ.. والقنابلُ ممطــــــرَه
وحصانُكَ العَرَبيُّ ضاعَ صهيلُهُ                    بينَ الدويِّ.. وبينَ صــرخةِ مُجبَـــرَه
"هلاّ سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالِكٍ"                    كيفَ الصمــــودُ؟! وأينَ أينَ المقدِرَه؟!
هذا الحصانُ يرى المَدافعَ حولَهُ                    متأهِّبـــاتٍ.. والقذائـــــــفَ مُشهَــــرَه
"لو كانَ يدري ما المحاورةُ اشتكى"               ولَصاحَ في وجـــهِ القطيــــعِ وحـــذَّرَه
يا ويحَ عبسٍ.. أسلَمُوا أعداءَهم                     مفتــاحَ خيمتِهــــم، ومَدُّوا القنطـــــــرَه
فأتى العدوُّ مُسلَّحاً بشقاقِـــــــهم                     ونــــفاقِهم، وأقام فيهم مِنْبـَـــــــــــــرَه
ذاقوا وَبَالَ ركوعِهم وخُنوعِهم                      فالعـــيشُ مُــرٌّ.. والهزائـــــمُ مُنكــــَرَه
هذِي يدُ الأوطانِ تجزي أهلَــــها                   مَن يقتــــــــرفْ في حقّـــها شرّاً.. يَرَه
ضاعت عُبَيلةُ.. والنياقُ... ودارُها                 لم يبـــــقَ شيءٌ بَعــــــدَها كي نخسـرَه
فدَعوا ضميرَ العُربِ يرقد ساكناً                   في قبرِهِ.. وادْعـوا لــــهُ.. بالمغفـــــرَه
عَجَزَ الكلامُ عن الكلامِ.. وريشتي                  لم تُبــــقِ دمعاً أو دمـــاً في المِحـــبرَه
وعيونُ عبلةَ لا تزالُ دموعُـــــها                    تترقَّبُ الجِــسْرَ البعـــــيدَ.. لِتَعبـــــُرَه

الثلاثاء، 13 ديسمبر 2011

الحب هو الذي أبكى الشمس..0


الحب هو الذي أبكى الشمس...

كانت البارحة أمي هنا، كانت تجود لكل منا بما يشتهى، وكان ما تمنحه عسلا مصفى؛ لوجهها كانت تتفتح أزهار اللوز والتفاح ، والورد والأقحوان . ولأجل عينيها كانت تتنافس جميعا فتبدع في تشكيل الهيئات والألوان.
وداهمتنا أحذية كثيرة غليظة، شديدة الوقع، قاسية؛ تتقاطع،
تتوالى أصوات وقعها في الخارج، كانت تدوس الأزهار التي لم تكن تراها.
قفزت أمي من فراشها ،  وأمسكت ساطورها الحاد، واندفعت نحو
الباب الخارجي الذي راح يئز تحت ضغط العسكري الذي كان يريد اقتلاعه، سمعنا ضجة ارتطام جسم ضخم بالأرض، وبعد لحظات عادت أمي وقد صارت شعلة من نشاط ، وبيدها ساطورها يتقاطر دما ،تمترست خلف باب غرفتنا ، أمام أعيننا ، دوى انفجار ؛  تبعه انتشار نور لامع كاشف تسرب من خلال فتحات الباب حتى تصورنا أننا في منتصف نهار مشمس ؛ هدر الرشاش ، وكان الرمي مركزا على الباب الذي كانت تقف وراءه أمي متحفزة ، تمسك ساطورها الحاد القاطع بيدها  ، وقد اتخذت وضع الانقضاض ،تنتظر ولوج الجندي الذي رماها من فوق القرميد فأخطأها وقفز إلى ساحة الحوش ، وكانت تتوقع أن يندفع خلفها فتعيد معه العملية التي قامت بها في الباب الخارجي مع زميله.
هدر الرشاش المصوب على بابنا للحظات ثم سكت ، بينما واصل
رشاش آخر هديره في الخارج لكن في اتجاه ثان، وعلا الصراخ ، وتوالى انفجار القنابل الكاشفة فزحزح الليل عن مكانه ؛ ودارت حرب انتقم الظلام فيها متحديا الجميع،  فابتلع في جوفه كثيرا من أسرارها .
تهاوت أمي نحو الأرض كنجم لم يعد قادر على الثبات في مساره
وهي تحاول معالجة ألمها في صبر وصمت وكبرياء، وساح دمها فتلقته التربة العطشى.
نظرت إلى محاجر عينيها، وما أجمل عينيها كانتا رائعتين ،
صافيتين ، حادتين ، متحديتين ، يظللهما حاجبان منهما استعارت الشمس هيئة حاجبها ، و منهما اختلست بعض سحرها إشعاعها، كانت تركزهما على الوحش الذي كان يدوس رجليها ليفتت ما بقي متماسكا من شظايا عظامها فتحرقه ، فيزداد هياجه ويروح يدوس بوحشية أكبر، يقفز إلى أعلى وينزل على رجليها وهو يشتم والرذاذ يتطاير من شدقيه المملوءتين بالزبد ، والألم يعصر أوداجه فكأن عظامه هي التي كانت تكسر تحت ثقل حذائه وليس عظامها ، كنت مركزا انظر في وجهها متوقعا أن تبكي ، أن تتوجع، أو تتأوه ، ورغم مرور وقت طويل منذ سقوطها لم تبك بعد ، كان وجهها الناري يزداد جمودا مع ميل مستمر ومتدرج إلى الصفرة،كان تحول وجه أمي يشبه تماما تحول الشمس في مسارها ؛ أحسست أن الشمس ألآن تنحدر نحو المغيب، ثم الغروب وخفت من أن يدهمنا الظلام ، وأن لا تعود الشمس إذا غابت هذه المرة ، ماذا سنفعل إذا قررت الشمس ألا تعود غدا، ماذا سنفعل لكي نمنع الشمس من المغيب وماذا سنفعل لندفع جحافل الظلام الرهيب في غياب الشمس. .
نظرت نحوي وهزت رأسها ، فأحسست أنها تعدني بالعودة ،
ستعود، لأن أمي كانت إذا وعدت وفت ، سمعت أبي يقول ذلك ، وذلك ما كانت ترويه عنها جاراتها ، وقد وعدتني ، فهمت ذلك من عينيها قبل أن يغطيهما سحاب الألم الكثيف قبيل غروبهما ،لابد أن تعود وعلي أن أصارع الظلام وغيلان الظلام في غيابها ، لابد أن أنفذ ما تسلل من روحها إلى روحي ففهمته إلى أن تعود ،لابد أن أكون مثلها في وفائي بوعدي لكي تعود.
بجانبي كانت أختي الصغيرة "جوهرة" تنقل عينين مشتقتين من
عيني أمها بيننا ، ولأنها لم تر أحدا منا يبكي لم تفهم ما يجري فلم تبك، كانت تسمع طرطقة عظام أمها تتهشم تحت حذاء العسكري ، ولكنني أعتقد أنها لم تكن على وعي بالمأساة ، كان وجهها بريئا ،مرعوبا، خائفا وجسدها متصلبا تحاول أن تحتمي بجسمي الصغير النحيل ولكنها لم تبك.
دخل عسكري ثان، تخطى أمي ، واتجه نحونا ؛ أنا وأختي ،وقال
- للذي كان منهمكا في طحن عظام أمي التي كسرت فلم تعد تصدر طرطقات، - ولِمَ تركت هذين "الفلاقين" الصغيرين المؤذيين .
صوب رشاشه نحونا ووضع إصبعه على الزناد يريد رشنا . وجدت أن
ذلك أحسن وأجمل من أن يطحن عظامنا وتحن أحياء، على الأقل لكي لا تتألم أختي الصغيرة " جوهرة" ولكي نغيب ككوكبين صغيرين يتبعان أمهما، ويتخذ الموت بذلك أجمل مظاهره وأروعها ، وتمنيت لو تستقر الرصاصة الأولى في رأس أختي والثانية في رأسي لكي نموت جمعيا وبسرعة دون أن يبكي فينا أحد كما أوصت أمي وكما ماتت الأتان بالقرب منها عندما أصيبت في رأسها فتكورت وهوت دون حركة أو ألم.
و قبيل أن يضغط العسكري زناد رشاشه
أندفع عسكري ثالث إلى داخل البيت وضرب الذي كان يدوس أمي بعقب رشاشه على صدره فألقاه أرضا وتجمد الذي كان ينوي رشنا وهو يتابع المشهد ثم التفت إليه وصرخ في وجهه هؤلاء هم المجاهدون الذين طلبتم المدد لمواجهتهم ، ورفع رجله حتى صارت ركبته في مستوى صدره وأرسله في شكل أفقي في صدر زميله فأسقطه وسط بركة الدم التي شكلها دم أمي الممزوج بدم الأتان . ثم صرخ فيهما هيا انهضا وانصرفا ، أخرجا باصقا عليهما، وانصرف في إثرهما دون أن يلتفت إلينا.
رفعت أختي بصرها نحوي، وأرادت أن تنهض
ساعية نحو جثة أمها، لم أدر لِمَ لَمْ أفعل أنا مثلها بل منعتها بلطف واحتضنتها فاستكانت، ثم غطيتها وغطيت نفسي وبقينا صامتين. وكان صوت أحذية العسكر في الخارج يتكاثر حينا ويقل حينا، وكنت بين الحين والحين أتلمس رأس أختي الصغير وامرر يدي فوق وجهها ،لأتأكد أنها مازالت موجودة بجانبي .
غفت أختي ؛ فانسللت إلى حيث تمدد جسد
أمي، وأمسكت بيديها . كانتا باردتين ، تمنيت لو أستطيع أن أشعل النار وأدفئهما، نسفت على أنامل يدها بفمي الصغير دون فائدة ، خفت أن تستيقظ أختي فتفتقدني إلى جانبها وتبكي فعدت مسرعا وانزلقت تحت الغطاء بلطف ،ووجدت أن أختي قد استيقظت وسألتني: أين ذهبت؟
قلت لها: طلبت مني أمي أن أغطيها فغطيتها
ونامت.
قالت: لما لا تأتي لتنام
بجانبنا.
قلت لها نامي وغدا صباحا اسأليها ، نامي واسكتي لكي لا يأتي
إلينا العسكر.
فانكمشت أكثر، واندست في حضني وراح نفسها يتردد كنفس
العصفور الصغير المرعوب، ولا أدري لما وجدت في ذلك عزاء لا يقدر.
أصبح الصبح، وكانت أمطار خفيفة قد بدأت تتساقط، و أحذية
العسكر ما تنفك تدك الأرض في الخارج ولكن بكثافة أقل و كان حديثهم ما يزال يتردد ويتزايد، وأخيرا دفع الباب ،ودخل رجلان وامرأة وجوههم بيضاء ، وعيونهم لا تشبه عيون أمي ، فهي زرقاء بحواجب شقراء باهته ، يرتدون مآزر بيضاء، ولم أكن من قبل رأيت بشرا مثلهم ،في ملابس مثل ملابسهم.
لم يلتفتوا إلينا ؛ بل كان كل اهتمامهم منصبا على أمي أ
أخرجوا مقصا ؛ وحبلا في طرفيه حديدتان ؛ وفي الوقت الذي كان أحدهما يقص بمقصه ثوب أمي على مستوى فخذها ، كان الآخر يضع الحديدة في طرف الحبل على صدرها الأيسر ويمسكها من زندها ويضع حديدة الطرف الآخر للحبل في أذنه تساعده المرأة.
نهضت وأختي لنتابع ما يجري لأمنا، فدفعتنا المرأة التي كانت
تقص ثوب أمي بلطف بعيدا، ثم أخرجتنا خارج البيت وفي الخارج تركتنا لمصيرنا وعادت مسرعة.
فاحتضنت أختي واحتمينا من المطر بمزاريب قرميد الحوش التي
راحت تبكي أمي بغزارة ، كانت الأمطار تريد أن تغسل آثار الجريمة قبل عودة الشمس، و لكن هل تعود الشمس؟.وغزا داخلي خواء ، عدم يبعث على الغثيان ، تجمعت كل بقايا الظلام بقلبي الصغير، وكانت أشجار التين الشوكي والصبار ، تحدق فينا منتصبة واجمة وقد اقشعر شوكها فبدت أظلافها مشرئبة كآذان الشياطين تتخللها أشجار الزيتون التي تهدلت أشداقها فمالت إلى الأرض منتكسة، مطأطئة مكسورة الخاطر.
ومن المزاريب انتقلت ألي عدوى النحيب ، وراحت عيناي
الصغيرتان تمدان الأمطار بالعون ، وانخرطت أنشج ، نظرت أختي نحوي ، و كنت أحاول أن أخفي عنها ما لم أعد قادرا على إخفائه ، وبدأت تبكي هي أيضا، وكان لابد لنا أن نبكي ، حتى وان كان ذلك مخالفا لوعدي لأمي ، فأنا أصغر من أن أكون في مستواها، اصغر وبكثير ؛ وسأبقى أصغر من ذلك إلى الأبد، إلى الأبد.
أُخرجت أمي من البيت في نعش،ووُضعت
أمام باب الحوش، وقد وضُع أنبوب في فمها ، ولُف جثمانها بحبل فثبته في موضعه بإحكام.
كانت الأرض موحلة وبقع الدم ما تنفك تنتشر يحملها السيل من
مكان إلى آخر ونحن مسمرين تحت الحائط الترابي وقد تحجرت حواسنا، فصرنا أبلهين يكتفيان بالنظر في ذهول وصمت، وجاءت نحونا المرأة ذات المئزر الأبيض ،أخذتنا إلى حيث مُددَ النعش ، وأشارت بإصبعها إلى وجه أمي ففهمت أنها تطلب منا النظر إليها ، ثم حمل النعش على بغل ، وتبعه الجميع ، وبقيت أنا و أختي "جوهرة " في مكاننا نبحلق في الفراغ ، فراغ رهيب، رهيب ، فراغ لن يملآ أبدا إلى أن تعود الشمس، وهل تعود؟ .
عبر
الموكب شعبة الروم وشعاب أخري وغاب في ثنيات "التوميات" ، غاب الموكب تماما حيث كانت تشرق الشمس ، عادت الشمس اليوم إلى مخبئها فمن يردها عن قرارها ويبرزها للعالمين مرة أخرى؟ سنقضي بقية أيامنا بدون شمس آه ما أبخل ذلك العسكري الذي منع صاحبه من إفراغ رشاشه في جسدينا الطريين النحيلين ، ما أبخله وما أقساه.
كان الدم في كل مكان، وجثث المواشي مبعثرة في جميع الزوايا،
ولم تستطع الأمطار التي ما انفكت تنهمر أن تمحو أثر الجريمة.
حاولت العودة بأختي إلى البيت ، ولكن وجود جثة الأتان التي
اختط دمها بدم أمي مازالت ممدة في مكانها ، وأنا لا استطيع إخراجها ،فخطر ببالي أن أغطيها بغطاء ، وأتصورها نامت بعد أن شبعت لا أدري لماذا خطر لي ذلك ربما لأن بطنها بدأ ينتفخ وهو ما فعلته ، ثم ذهبت إلى أختي ، كانت تجلس فوق حجر صغير خارج البيت تمسك عودا ، وتحاول أن تعترض به ماء المزراب ، مسكتها من يدها الصغيرة وقدتها إلى داخل البيت .
دفعني الضيق وعدم قدرتي على استيعاب ما حدث إلى الخروج ،
خرجت أتفقد المكان؛ لأنني لا أعرف إلى حد الساعة ما الذي جرى؟ ، ولماذا جرى؟ وأنا أطوف ببصري لاحت لي في زاوية عند الباب الخارجي حقيبة تجهيزات مرمية تحت السقيفة ، تطل منها خبزة سرت بخطى متثاقلة نحوها فأخرجتها ، وعدت إلى أختي ، وممدتها نحوها فاقتطعت منها قطعة وأخذت تأكل بنهم ، كانت جائعة ، جلست إلى جانبها وفعلت فعلها، طردنا ألم الجوع ، ثم لففت ما بقي منها في قطعة قماش ووضعتها في الطاق، وخرجنا نستطلع ما حول البيت وكان الجو يزداد ثقلا وقتامه كل لحطة.
رنوت ببصري نحو الجنوب وحولته مع الأفق نحو الشرق حيث غيبت
أمي محمولة على نعشها، صار الشرق مغربا ، وعوت قطعان الذئاب وتنادت ، تنعى الشمس التي غابت في غير حينها وفي غير موضعها ، تراها ظلت الطريق؟؟، أم عادت إلى مخبئها تبحث عن خل أو صديق ؟؟، وتنسج من شعرها الذهبي شلالات تمدها حبلا للغريق.؟؟ تراها تفتح عينيها، تراها تفيق...؟؟؟؟.
وكان تراسل الذئاب مشحونا بالحزن
والأسى، فزاد قتامه الجو قتامة و كآبة ، وامتد نشيجها في منعرجات الأودية والشعاب التي ارتفع هديرها لكثرة ما سح من مآقيها و شق طريقه إلى البحر يطلب الإياب.
استأنست بعواء الذئاب بل أحسست أنها أقرب المخلوقات إلي
قلبي، وأكثرها رقة، فقد كانت المعزي الوحيد الذي تحدى الخوف والرعب وجاء يشاركنا المصاب ؛ كانت الوحيدة التي أدركت عمق المأساة وبازدياد عوائها وانتشار رقعته زال عني الخوف لأنها ومهما قيل عنها فهي ألطف من البرابرة الوحوش ؛ وأحسست انه حتى بعد غياب الشمس سيبقى إلى جانبنا أنا وأختي "جوهرة" بعض أصدقائنا ، بعض أهلنا .
عدت
إلى البيت حيث كانت تجلس" جوهرة" مدثرة بغطائها ، أشعلت النار، وأضأت الفانوس ، فانكشفت أرجاء الغرفة ، كانت شظايا أواني مختلفة، ورصاص بأحجام متفاوتة مبعثرة متناثرة في كل كان ، وكانت الثقوب في الحائط الترابي كثيرة إلى حد جعلني أتصور أنه كان منذ زمن طويل ملعبا للفئران واليرابيع تتمرن فيه لتبرع في حفر جحورها.
ولعلي
صرفت نظري وخيالي إلى ذلك ، وحثثت أختي على أن تفعل مثلي فقط كي لا ننظر حيث تجمعت الدماء وبدأت تتخثر فكونت جزرا متفاوتة الأحجام والأشكال.
كان عواء الذئاب ما ينفك يتكاثر ويدنو، وكنت أعرف أنها
ستأتي وأنها ستحاول الدخول إلى ساحة البيت، لكثرة الفرائس المرمية في الساحة ولكنني كنت متيقنا أنها لن تستطيع الدخول.
وتفقدت أختي فوجدتها قد غاصت في نوم
عميق ، وسرعان ما لحقت بها.
استفقنا في صبيحة اليوم الموالى على دق خفيف على الباب
يصاحبه نداء فيه لطف: يا أهل الدار، يا أهل الدار هل في الدار أحد؟؟
تطلعت من شق الباب فرأيت زوج أختي، فتحت الباب، فاحتضنني
وسألني أين أختك؟ و قبل أن أجيبه عرفته فاندفعت نحوه و أحاطت رجليه بيديها الصغيرتين، فحملها ودفعني إلى الخارج أمامه ثم استدار نحو الباب فأغلقه وربطه بسلك ثم امسك بيدي وراح ينزل بنا المنحدر صوب بيته ، وعند وصولنا تلقتنا أختي بين حضنها وراحت تبكي فغرسنا رأسينا الصغيرين في صدرها ورحنا ننشج نشيجا مرا مؤلما.
مر عامان، والأخبار تقول أن أمي مازالت على قيد الحياة،
وأنها تعالج في مستشفى بعيد يعز الوصول إليه على من كان في مثل حالنا، لم أكن اصدق ما يقال، والظلام الذي سكن أعماقي مازال مقيما لم يتزحزح.
مر عامان: وكل ليلة أتمنى لو أرى أمي ، حتى ولو كانت جثة
مغمضة العينين ، استطيع أن أرى عينيها تشعان ولو كانتا مغمضتين، كل ليلة كنت أتضرع إلى الله وإلى الأولياء والصالحين والأرواح الخيرة الطاهرة لتجلب لي صورة آمي في المنام، وعلى هذا الأمل أنام، وكانت كل ليلة تعير مهمة تحقيق الحلم إلى الليلة التي تليها.
مر عامان، وسمعنا منبه سيارة في الجهة الأخرى من الوادي
المحاذي لسكن أختي، خرجنا نجري وشاهدت المرأة ذات المئزر الأبيض.
كانت بصحبة رجلين أشار أحدهما إلينا بمجرد خروجنا أن اقبلوا
، فسار نحوه زوج أختي وبقينا نحن مجتمعين ننظر ما سيحدث ، عند وصوله تقدم الثلاثة نحوه وصافحوه واحدا واحدا ، وبعد برهة أشار نحونا أن تعالوا لقد عادت أمنا جاءت أمنا ، لم ندر ما نفعل ،وأنزلت أمي من السيارة ، عرفت فيما بعد أنها تدعى سيارة الإسعاف لم أنتظر هذه المرة لأسحب أختي من يديها ، جريت نحو أمي و.لكنني في منتصف المسافة خفت أن تغضب فتضيع شيئا من جمال عينييها فعدت جريا إلى أختي وأمسكتها من يدها وجررتها بقوة ألمتها ولكنها كانت تضحك وصلنا إلى أمي ، وكان الناس قد سبقونا إليها وهم يسبحون ويهللون الله، الله يا أمنا ،حمدا على عودتك ، واندفعت النسوة يلثمن يديها ، ويقبلن خديها ، وبقيت أنا أطوف وأختي ملتصقة بيدي ورائي ، كنت المح من بين أرجل المحيطين بها جزءا من ثوبها ، جزءا من حذائها وأبحث عن منفذ إلى حضنها؛ لكن التصاق يدي بمعصم أختي أعاقني .
كانت جالسة في كرسي متحرك وعيناها
تبحثان عنا وسط الجموع الذين انتبهوا أخيرا ، ففسحوا لنا الطريق و اندفعنا إليها بقوة ، حضنتنا، واجتمعت رؤوسنا الثلاثة طويلا حتى صرنا جسدا واحد، فأحسست أن حضن أمي قد محا كل ألام المأساة ، و انه أصبح عندي بعد عودتها عدد لا يحصى من الإخوة و الأخوات ، وأخرجت ذات المئزر الأبيض التي كانت تراقب المشهد في صمت ، وقد ترقرقت عيناها بالدموع ، أخرجت أكياسا فيها هدايا وحلوى ومأكولات ، وضعتها في حجر أمي وقبل أن تنصرف قالت : ما كنا نستطيع أن تأتي بها إلى هنا لولا الإعلان عن وقف إطلاق النار ، ومع ذلك لو كان هنا جسر يربط ضفتي الوادي لأمكننا أن نوصلها إلى البيت ، وسلمت على أمي وهي تقول لها سنعود إليك بعد أسبوع ، فتمتعي بعطلتك وإلى اللقاء.
عادت السيارة من حيث أتت، و حملت أمي في كرسييها على
الأكتاف، وتوالى مجيء الجارات والجيران، لمشاركتنا فرحتنا وبتنا ليلتنا ونحن في قمة السعادة.
في صبيحة اليوم الموالي أشرقت الشمس، وكانت صافية الوجه،
دافئة، هادئة قد عادت تماما إلى مسارها. فخرجنا من بيت أختي لاستقبال يومنا وإذا الرجال يتقاطرون ويجتمعون حول الوادي في المكان الذي توقفت عنده سيارة الإسعاف يوم أمس وكل يحمل آلة بيده : فؤوس، ومجارف وحمالات لجلب الحجارة كانوا قد اجمعوا أمرهم وعزموا على إقامة الجسر قبل انتهاء الأسبوع ، ورفع شيخ كبير صوته :يا أبنائي عليكم إذا وفقتم في بناء هذا الجسر ألا تتوقفوا ، بل واصلوا مد الجسور بينكم ،واصلوا فأنتم أحوج ما تكونون إلي إعادة ربط الجسور المهدمة .
طلبت
أمي زوج أختي فصعد من الوادي جاريا بعد أن أكمل الشيخ كلامه وسكت.
سألته أمي:هل تستطيع أن تحتال وتتدبر أي وسيلة توصلني بها
إلى قمة" التوميات ؟.
فهز رأسه وانطلق: سأعود إليك بعد لحظة وعاد وبيده حمالة ،
وبمساعدة الجيران حقق لها طلبها ، وحمل كرسيها على الأكتاف تماما كما حملت هي ، وفي قمة الجبل المستوية وضع كرسي أمي المتحرك ، و بعد أن استوت في جلستها وعدلت هندامها طافت ببصرها كل الأفاق المحيطة ، ثم التفت حولها وطلبت من الجميع الابتعاد عنها واستبقتني أنا وأختي إلي جانبها ، جذبتنا نحوها وضمتنا إلى صدرها واجتمعت رؤوسنا الثلاثة وطوقتنا بذراعيها وانهمرت دموع أمي، مالحة، حارة غزيرة ، بكت أمي بحرقة، نشجت حتى كاد نشيجها أن يتحول إلى نواح ،ولم نصبر فرحنا نبكي لبكائها ، وأخيرا كفت عن البكاء ، وراحت تمسح أدمعنا بكفيها ، وتبسمت، ثم ضحكت، وشع جمال عينيها فأشرقت الشمس كما كانت تشرق قبل عامين،وراحت قطعان البقر والغنم تخور وتثغو بينما اكتفت الذئاب الممددة تحت ظلال السدر بالمتعة والاستماع لأن الذئاب لا تعوي بحضور الشمس وفي نورها.
وطرت مع أختي من حضن أمي ورحنا نضحك ، نقهقه ونطارد
الفراشات على القمة.

الضيف حمراوي 20/02/2008.

القول ما قالت حذام

  قا ل ، وروي ، والقول ما قالت حذام مع افتراض صدق النية، وسلامة الطوية ، فإن البصر بطبيعته كثيرا ما يخدع ، فيوقع الإدراك في الخطأ، فينقل ال...