الأحد، 28 فبراير 2016

ألفاظ آرامية سريانية في لغتنا الفصحى والعامية



كلمة "أبُ" رسمها السرياني"أبُا"  الألف في السريانية تقرأ هنا مدا للضمة ، ولهذه الكلمة معنيان في السريانية :1- أب أي والد، وأنبا أي رئيس دير ،رجل دين .
2- ثمرة ،ثمر، ثمار ، منتوج يفيد.
 وقد كونت بمعناها الأول  بؤرة تجمعت حولها خلافات وتكهنات في المناقشات اللغوية والفقهية وأثيرت بشأنها شبهات حين دمجت مع مقطع ثان، وتشكل منهما اسم العلم المعروف بمختلف صوره في معظم لغات العالم " ابراهيم" Abraham-Abram-Ibraham-Ibrahim.. أبراهام ؛ أبرام، أبراهم ، أبراهيم . وتعود هذه الخلافات إلى:


  •  أولا : الحرف الأول في هذا الاسم ليس همزة وصل ؛ بل هو حرف أصلي ، وركن في الكلمة أبُ ،وحذف هذه الهمزة أو تحويلها أو تعويضها  بهمزة وصل يدمر المعنى تماما. وهو ما نفعله أحيانا في الدارجة حين نقول : بْرَاهيم بادئين بباء ساكنة.
  • ثانيا : هذه الكلمة أصبحت اسم علم لأب الأنبياء وأب اليهود والعرب ،ثم لذريته من بعده ، تكتب بالصيغ الأربعة  السابقة ؛ وكتبت بالصيغة الأولى والثانية عند اليهود والمسيحيين وبها انتشرت في كل اللغات الغربية ، وكتبت بالصيغة الثالثة والرابعة  في القرآن ،فرسمت 53 مرة في سورة البقرة إبراهم بدون ياء بين الهاء والميم ، وكتبت في باقي الآيات والسورالأخرى  ( إبراهيم) بهمزة مكسورة وياء بين الهاء والميم.
  • ثالثا :عُدَّ هذا الاسم أسما أعجميا  ؛ ومُنع من الصرف لهذه السبب عند علماء العربية وفقهائها ، وهو موقف صدمني وصعب على قبوله حتى الآن ، فإذا كان إبراهيم هو جد العرب والد أبيهم اسماعيل فكيف يكون اسم الجد  واسم الأب أعجميين باسمين أعجميين وتكون  ذريتهم ونسلهم  عربا و ليسوا بأعاجم ، وقد قرأت الكثير من التبريرات اللامعقولة لهذا الطرح ورأيتها  مجرد تخريجات لا تقنع.
رابعا : أن هذا الاسم قد أثار بين  المسلمين ؛ وبين خصومهم  الطاعنين في القرآن شبهات ولغطا ، فالمسلمون يرون أن العبرانيين قد حرفوا اسم الجد المشترك  إلى أبراهام ، أو أبرام ،بينما يرى المشككون من غير العرب أن العرب  ، قد حرفوا الاسم وهم أنفسهم  كانوا ومازالوا مختلفين في وكتابته  وقراءته ، يتناقضون في ذلك - حسب زعمهم- حتى في القرآن كتابهم  المقدس .
 ولهذه الأسباب كان ينبغى البحث في اللغة الأصلية التي تشكل في حضنها هذا الاسم وهي اللغة  الكلدانية الآرامية لغة سيدنا وأبينا  أبراهيم عليه السلام وكيف تطور.


وبالعودة إلى تحليل هذا الاسم ، نجد أنه مركب من مقطعين؛ كل منهما كلمة قائمة بذاتها ، المقطع الأول "أبُ" المعنى الأول أي الوالد للكلمة الآرامية السريانية (أبُا) سواء أكانت الأبوة البيولوجية أو الروحية أو هما معا ، والمقطع الثاني هو صيغ مشتقة من مصدر الكلمة الآرامية السريانية ألأخرى ذات المادة "رحم" "رحمت" أو "رحمة" التي تعني الرفق ، الحلم ، الشفقة ، غفران؛ المحبة ،  و الصيغ المشتقة والمستعملة في تركيب الاسم  هي تلك المعروفة في اللغات السامية المنبثقة عن الآرامية إي السريانية بشقيها الغربي والشرقي ،والعبرية ،والنبطية العربية والمتمثلة هنا في :1- صيغة مبالغة رحّام (رحوم) على وزن فعّال؛فعول.2- وصيغة اسم الفاعل راحم على وزن فاعل. 3- وصيغة الصفة المشبهة رحيم على وزن فعيل "في عبرية العهد القديم"، ثم  العربية , ومن الاسم أب ، وصيغة المبالغة؛ جاءت أبُ رحام  عند غير العرب، ومن  الاسم أب ، واسم الفاعل؛ جاء أبُ راحم ، ومن الاسم أب،  وصيغة  الصفة المشبهة ؛ جاء أبُ رحيم ؛عند العرب :
ويكَوّن هذا التركيب في السريانية جملة اسمية مفيدة من المبتدإ : أب ؛ ومن ثلاثة صيغ تخبر عنه وتصفه بالصفات التي عرف بها  : رحام ، وراحم ، ورحيم  ، وهي جمل تامة ، دمج فيها المبتدأ مع خبره  الذي لفظت فيه الحاء هاء؛  فصارت مع صيغة المبالغة: أبراهام ، وصارت معه هاء غير ملفوظه فصارت أبرام ، وصارت مع اسم الفاعل هاء ملفوظة أبراهم ، ومع الصفة المشبهة أبراهيم . وكل هذه الصيغ مدح بها سيدنا إبراهيم  ووجود إحداهن لا تلغي الأخريات بل تعززها وتؤكدها ، وبالتالي فهي كما وردت في التوراة والإنجيل أبراهام وأبرام  صحيحة ، وكما وردت في سورة البقرة  أبراهم صحيحة ؛  وكما وردت في السور الأخرى أبراهيم صحيحة فهو أب رحام ؛ راحم ؛ رحيم ، وكل  الشبهات المثارة هي شبهات متولدة عن عدم فهم بنية لاسم ومعاني مكونات هذه البنية .


 أما إذا أردنا إعراب الجملة التي ركب منها الاسم ، وصيغ منها اسم العلم المركب هذا ، والذي منع من الصرف ليس للعجمة والعَلمية ، ولكن  للعَلمية والتركيب بمختلف  صوره التي تتعدد ولكنها  تدل على ذات موصوفة واحدة لتنوع صفاتها : فنقول : أب : خبر لمبتدإ محذوف تقديره هذا أو هو ، ورحام ، وراحم  أو رحيم نعت تابع لمنعوتة في الرفع. هذا بشرط أن يتخلى العرب عن انحرافهم الذي تعودوا عليه في نطق الهمزة الأصلية  في أب (أبُا) مكسورة .
المعنى الثاني لكلمة :"أبُ" وتكتب أيضا " أبُا" في معناها السرياني هي : ثمرة ، ثمر ، وثمار؛ وتطلق على حمل ومنتوج الشجر ؛ وباقي المزروعات والنباتات  التي يستفيد منها الإنسان بطريقة مباشرة ، وغير مباشرة ، وقد أثارت بدورها نقاشات حول معناها في الآية " فاكهة وأبَّا"عبس 31 . لأنها رسمت باللفظ السرياني والمعنى السرياني ،  وبدأت النقاشات  مع قول منسوب لأبي  بكر حين سئل عن قوله تعالى : ( وفاكهة وأبا  ) . فقال: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم " .وقول آخر منسوب لعمر بن الخطاب في نفس المنحى :" هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب ؟ ثم قال : مه نهينا عن التكلف " .
وذهبت الآراء في تفسيرها مذاهب شتى. فقيل: أن الفاكهة معروفة وهي كل ما أكل رطبا، أما شرح كلمة " أبّا" فتضاربت حولها الآراء تحت تأثير قولي أبي بكر وعمر بن الخطاب، رغم أن معناها واضح جلي  أدركه الشراح لكن بعضهم تكلف فضل ، وهي" فاكهة وثمارا "على اختلاف أصنافها ، وفي الآية انتقال من الخاص إلى العام. والآية التالية "متاعا لكم ولأنعامكم " عبس32  و طبيعى ألا تحصل المتعة والاستمتاع  بهذه الثمار  إلا بتنوعها  واستوائها ونضوجها فاكهة وثمارا  وهي آية تزيد ما قبلها توضيحا وتجليه.
الدالية: كلمة أصلها سريانية وهي شجيرة الكرمة  ؛والدوالي عنب أسود غير حالك.



دان :حَكَمَ  فعل أصله سرياني، والدين بتشديد الدال وكسره  يوم الحشر والحساب ، والديان :الله المحاسب؛ وتأتي أيضا بمعنى القاضي. الآسي : الطبيب .تاجُ : كلمة سريانية الأصل إكليل  وهو بهذا المعنى في سفر أيوب وفي مزامير داوود ،أما التاج باللغة العبرية فهو وزان البناء ؛ ومن الكلمات السريانية المستعملة عندنا بكثرة  نجد: ذهب وهي أرامية سريانية ينطق ويكتب فيها الذال زايا  كاللهجة المصرية ،  وزيت ، يوم ،أسبوع ، شهر، ريح .أسماء الأعضاء :عين ،سمع ، صبع ،فَمُ، شفة، سنُّ ،ضرس، ناب ،جبين ؛ حاجب، شعر ، ذقن، كتف ، يد ، خنصر ، بنصر، ظفر،ذراع ، ضلع ؛ سرة ،كرش أي : بطن، معدة .معي أي: أمعاء .لب أي: قلب.دم :حياة ،عصارة، ماء الحياة . فيل ،عزبة أي مزرعة .،بورُ ما بارمن الأرض فلم يفلح ولم يعمر. تبن: التبن ،القش  أي عشب أو زرع مدروس مهروس .القش :بالسريانية ما يكنس من غبار البيت . تبان:سروال قصير.زنار:حزام  كتاب، كتَب ،يكتب . حاشا  وتكتب في السريانية بحاء فسين (حس) ولكنها تنطق حاشا (حس)   يلفظ السين شينا مع مد فتحتي  الحرفين بالنطق العربي ؛ وضم الحرف الأخير مع مده بالواو (حشو) في السريانية عند من حافظ على النطق السرياني ،ولهذا السبب تجد القراء في القراءات القرآنية يختلفون في كتابتها ، وفي تصنيفها وهل هي اسم أم فعل أم حرف ؟ وفي معناها  مع اتفاقهم في نطقها (حاشا) كما سُمعت في كلام الجاهليين  عن سواد القراء ، وهناك من يقرأها حشُ .افتقد :طلب الشيء عند غيبته . جَبَلَ : خلق أ أبدع، صاغ، عجن ،شكل .لَمَّد:تستعمل  في الدرجة بكثرة ،ومعناها :جمع وضم .  لسان أي لغة مع الميل بالسين نحو الشين وضم النون في النطق ؛ ونجد لام الملكية وكاف الخطاب وهاء الغائب والغائبة ، لي ،لك ، لكِ ،لنا ،لِهْ وما كان على صيغتها مع اختلاف طفيف في النطق ، ومثلها  قام ، يقوم ، قائم .  صلاة ، صلواة : تعني النزول والركوع. سجد . سجود . زكاة ، زكواة .  فرقان: ومن معانيه  خلاص ،نجاة ،نصر، حق ، ملك . ولد ، يلد. بمعناها المعروف في اللغة العربية . صبر :تحمل الألم والشدائد . لوح . لوحة . الهرج :أي ارتفاع الأصوات أثناء الدرس . الكوة  :أي النافذة  ،الشباك.. زكاة، جبروت ، جبار.اسماء الأقارب : أم  ̤؛ أَبُ؛ أخ ُ، أختُ ؛خال ؛خالة: أخوأو أخت الأم. حمو:أب الزوج ؛ حماة :أم الزوجة.  شاب ،شيب أي شاخ  وهرم .رأس : بكسر الراء وتخفيف الهمزة . أُذْنُ : الأذنُ عضو السمع .العامّة :أي الشعب . وز ، موز ، جليد ، قدقد أو جدجد guadguéde المستعملة في الدارجة ومعناها نسيج متماثل متطابق بعضه معقود ببعض ومنها قِدْ أو جد guéd له : أي خذ منه المقاسات لتنسج له ما يطابق جسمه  ومثلها ، ديالك ، ديالي ، ديالنا ،أي خاصتك ،خاصتي ،خاصتنا التي يستعملها العاصميون عندنا  وأيضا  البط . البطم . البلوط .نجم  . نجوم . ترجم . ترجمة . ترجمان. الحانوت  أي: دكان الخمار . الحانة : دكان يشرب فيه الخمر ،السوق :مكان لتبادل السلع والمنافع.زبون :شار، مبتاع ؛عتيق أي :قديم. وردة . خوخ . خوخة  الفاكهة المعروفة ، الليمون . اسم مروة  التي تسمى بها البنات وتعني الخزامى نوع من الزهور البرية الجميلة . جفنة : صحن كبير من طين أو فخار .ترعة، التراع أي البواب البلور ، الشمس، الجمل ، القط ؛ الذيب أي الذئب، النمر ؛الحمار ،حمارة أي أتان وهي كذلك بالسريانية أتونو. الأمة :أي الخادمة المستعبدة ؛ ولد يلد . بيت بتحويل التاء إلى ثاء. قرية أي:بلدة صغيرة، ضيعة ،شعب . مدينة أي بلدة ،منطقة، حصن. التليس  وهو جراب كبير من قسمين يوضع فوق ظهر البغل .زفت :قار، تطلى به جلود الحيوانات حين يصيبها الجرب .تكة وهي حزام ، زنار يربط به السروال ،جمع تكات ، طفي الضو واضرب النح ، نح سريانية معناها : استرح ، توقف، انقطع عن... . الثلج ، الدير، الثبور: أي الهلاك . السبت : الراحة والإنقطاع عن الحركة وعن السعي. الباكور أول كل شيء . البتية بالدارجة أي الباطية وهي وعاء لتخزين الخمر. سكَّر :فعل أمر بمعني  أغلق مع الميل بنطق الكاف نحو الخاء . بلع بلعُ أ صرط صرط  المستعملة في الدارجة ،كلها سريانية.


 


 

الخميس، 18 فبراير 2016

كيف تقرأ؟.

في وقتنا الحالي ، ولدى الأمم المحترمة ، العاقلة المتحضرة ، تعتبر القراءة والبحث هي أس النشاط البشري ، والأمم الرائدة دائبة البحث عن مناهج و كيفيات جديدة للقراءة تسمح بمسايرة الزيادة الهائلة في عدد المطبوعات والمنشورات الهائلة التي حولت طبيعة الإشكالية من ماذا نقرأ؟ إلى إشكالية كيف نقرأ؟.


إذا أسأت القراءة أسأت الفهم ، وإذا أسأت الفهم أسأت السلوك ، أي أجرمت في حق نفسك وفي حق غيرك، وفي حق القيم ،وأنت مساءل عن ذلك آجلا أو عاجلا ، ولا من يشفع لك  مهما كانت نواياك حسنة والعكس صحيح تماما . "من النص إلى الفعل"

ولأن القراءة نشاط ينتهي دائما بموقف ، ومردود هذا النشاط يتفاوت بتفاوت  قدرات البشر في امتلاك الكفاءات القرائية ؛ وبتباين الدوافع ، والأهداف،  والتخصصات والقدرات والكفاءات ، والنوايا والمصالح  التي تتظافر كلها لتلعب دورها في توجيه الفهم وتحديد المعنى المستنبط ،وذلك أنتج اختلافا كبيرا في تحديد كلمة قراءة حسب المستوى ،و التدرج والمجال المعرفي الذي يندرج فيه نشاط القراءة ، وحسب المقاصد والمظاهر التي يتخذها هذا النشاط.

ومن المعاني التي تتضمنها كلمة قراءة وتوحي بها. 


1- التخمين واستكناه الغيب: قرأ للعاقبة حسابها، قراءة الكف ، الفنجان، قرأ ما يدور في رأسك. أي أن هناك من يفترض وجود معنى أو فكرة مخبأة والطريق إلى اكتشافها هو القراءة. 


2- التهجية : أولا القراءة في مستواها الأول البدائي ، هو النطق الحسن للحروف والكلمات حسب تراتبها وحركاتها وإعطاء كل حرف حقه من إشباع أو مد أو ترقيق أو تفخيم أو تشديد أو إدغام بأصواتها جهرا أو همسا وما إلى ذلك ، وهذا لا يهمنا هنا ليس استهانة بهذه المرحلة القاعدية ، ولكن نوجه اهتمامنا لمرحلة أعلى حين يكتسب المرء الثقة في نفسه بقدرته على القراءة ، و يشعر بانه لم يعد في حاجة إلى مساعدة أو توجيه. ذلك لأن اللغة معطى مادي مجسد في إشارات (أصوات وحروف) وفق نظام خاص (قواعد نحوية وصرفية وتركيبية) تميز لغة عن أخرى. ثم الجمل ثم الفقرات التي تحوي معان، محصورة بالقدر الذي يتلاءم مع عقل و سن المتعلم ومستوى إدراكه ،والتعاطي معها في هذا المستوى يكون في الغالب بفكر قليل التعقيد وله أوجه، ويحتمل تأويلات ، ومقاربات محدودة. 


3- التلاوة والترتيل: وهذا غالبا ما يكون "قراءة جهرية بصوت عال " وترديدا وتقليدا ومتابعة للغير، أو وسيلة لتحصيل  الحفظ ، أو لاستدعاء المحفوظ من الذاكرة ، وهذه القراءة مهما كان دافعها نبيلا، فهي في نظري نشاط لامعنى له خارج المجال الإيقاعي الذي يستهدف الانطباعات السمعية الحسية وبدرجة أقل الوجدانية لا الفكرية؛ وليس له كبير فائدة بعد المرحلة الأولى من التعليم الابتدائي. لأن اللغة والنصوص في بنائيها: السطحي بعناصره،  والعميق بمكوناته وتأثيراته في النص المقروء  ولدى القارئ هي مادة الفكر وصورته، وكلاهما يقوم بالآخر وعليه  ، فكل نشاط يقف عند مستوى الأصوات والتنغيم  هو نشاط بدائي في اللغة كغناء العصافير أو عواء الذئاب ؛ حتى وإن حقق نوعا من التواصل، فنحن حين نقرأ نسعى من وراء ذلك إلى تدبر المقروء والغوص وراء تشعبات الفكرة وأبعادها والتأويلات التي تقبلها داخل النص من عنوانه حتى أخر كلمة فيه؛ و محاولة التواصل مع الآخر الكامن في النص على مستوى راق  باذلين أقصى ما نملك من التركيز الذهني ،والحركية الفكرية ، والتيقظ الحسي  والتحرر الخيالي، ولذلك جاء في أصول النحو "إنما وضع الكلام لفائدة".


4- القراءة : وتكون بدايتها مع تعلم الجمل والعبارات الدالة ذات المعاني المفيدة والتعرف على الكلمات بهيئاتها ؛ وبمعانيها في سياقها ؛ ثم تحلل الجمل إلى كلمات فالكلمة إلى مقاطع فحروف ،وهي تقوم على القراءة الجهرية كمدخل للقراءة الصامتة والشاملة والسريعة التي تتطور عبر مراحل التعليم المتتالية بمساعدة وإشراف المعلمين إلى أن تتحقق الاستقلالية الكاملة في القراءة لدى الفرد.


فالقراءة  إذن: عملية حسية عقلية فكرية ووجدانية تهدف إلى تفكيك رسالة ، نص ، قول ، خطاب ،كتاب  ، بتحليله وتفسيره وكشف هيكل بنائه وتقنياته و معطياته وشبكة العلاقات الحاكمة لعناصره بحثا عن معنى أو معان كامنة وبتزاوج هذه الأخيرة بعد أن تسفر وتتجلى مع تجارب القارئ؛ وذكائه؛ وخياله؛ ووجدانه ، يولد شيء جديد؛ على القارئ أن يضع له اسما ...؛ أن ينشأ له تعريفا وتحديدا ووصفا.


وبديهي أن لكل نص، أو قول أو خطاب سياق متميز أحاط وجوده، و طبعه بخصوصيات وسمات لا تتكرر؛ ثم سياق تلقي يتغير بتغير المتلقي وظروف التلقي ، ونفس هذه العناصر نجدها في الطرف المقابل أي: القارئ المتلقي  تحيط به وتضغط عليه.



السياق: ويلعب السياق دورا بالغ الأهمية بالنسبة لكل نص، إن في مرحلة تشكله ؛ أو في مرحلة  تلقيه عن طريق القراءة  والدراسة .


 وهو بشكل عام : حدث ؛ فكرة ؛ حالة، أمر ،إلزام ،التزام ، تعهد، شعور ، يذهب أي : ينمو، يتطور في اتجاه  ، وتتابع  متناسق غالبا ؛ ضمن محددات لغوية و منطقية  وثقافية واجتماعية وسياسية، وظرفية :مكانية وزمانية ، وحالية ، وراء قصد ما." ولذلك فالواجب يقتضي تأويل كل كلمة أو جملة ليس في استقلاليتها  وتفردها؛ وإنما من خلال سياقها يصح (معه) القول: إذا كان التركيب يوجد داخل النص، فإن الدلالة توجد داخل السياق. وهذا لا يقتصر على تحديد دلالة العبارة فقط. بل يمتد ليشمل تحديد الصور والاستعارات والمجازات والبحث في آليات ضبطها وتأويلها"[1].


 اللغة كنصوص ؛ في سياقاتها ؛ تستعمل بجدية و بإيجابية في أمور خطيرة كالعقيدة " النص القرآني"  وفي تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وربه ؛  وبين الإنسان والإنسان " كالنصوص الشرعية" ، و كالتشريعات  الوضعية : "تسري على الالتزامات الناجمة مباشرة عن القانون دون غيرها النصوص القانونية التي قررتها"[2]. وكالقاعدة الفقهية العامة المعروفة : " لا عقوبة بدون نص ". وغيرها من النصوص الشرعية والقانونية في كافة اقسام الفقه وتخصصاته ، وتستعمل بهذا الوصف في  مجالات العلم  المختلفة ؛ وفي الإعلام الموضوعي،  والاخبار الصادق، وفي التعليم والتوجيه ؛ والتربية والارشاد الصحيح المخلص ،وفي الترفيه المفيد،   كما تستعمل بسلبية كالإيهام والخداع ؛ والدعاية والإشهار الكاذب المضلل ؛ ومغالطة العقول والأفهام واستغفالها ، ومراوغتها،" لماذا يشبه الغراب المكتب؟" "الغاية تبرر الوسيلة "،"كل القراءات الحقيقية هدامة ؛ ضد المزاج، كما اكتشفت ذلك آليس،القارئة السليمة العقل؛ في عالم غابة المرآة لمانحي الأسماء المجانين،...فرئيس كندا يقتلع السكك الحديدية ويسمى ذلك (تقدما)، ورجل أعمال سويسري يبيع البضائع المسروقة ويسمي ذلك (تجارة) ، ورئيس الأرجنتين يحمي القتلة  ويسمي ذلك (صفحا ومصالحة)...في حالات من الجنون المقصود كهذه ،تساعد القراءة على بلوغ ترابط منطقي من الفوضى ،لا من أجل أن تزيلها، ولا من أجل أن تطوق التجربة داخل بنى لفظية تقليدية ،بل من أجل أن تتيح للفوضى، على نحو مبدع تطوير طريقها المدوخ"[3] وهذا هو الغالب على مخرجات القراءة في تراثنا العربي –قبل لويس كارول و قبل آليس-، والذي تجسد في كتب تراثية تعد عندنا مراجع لا غنى عنها ،مع الإقرار باستعمالها للوجهين معا مع التفاوت المذكور في الكم وقد يتواجدان جنبا إلى جنب في نقس الوقت وفي جميع الميادين الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية ويصبح الامر أكثر صعوبة على القارئ والمتلقي عموما عندما يقبل هذ الأخير على المقروء بأحكام مسبقة ومواقف تشكلت خارج النص المقروء كالثقة في صاحب النص وتقديس المقروء تجعله مستعدا لقبول كل ما يلقي إليه أو العكس. ولهذا فإن كل زعم يدعي إمكانية فهم المقروء بمعزل عن السياق والقرائن يكون بعيدا عن الصواب خال من كل مصداقية. السياق يلبس  للألفاظ معاني جديدة أو يخلع عنها معانيها القاموسية المألوفة ، وقد يشكلها تشكيلا لم يألفه الناس من قبل ، وينحرف عن الطرق المعتادة فيسرف أو يقتصد في الخروج من التصريح إلى التلميح ويمعن في الكناية والمجاز فيقيم علاقات بين المتنافرات والأضداد ويقدم ويؤخر، ويوجز ويطنب ويطوح به الخيال  إلى حد الغموض والإيهام تساعده  على ذلك مرونة اللغة بما  لها من قدرات كبيرة  لا متناهية على نقل المعاني على عدة مستويات:


تتنوع كيفيات القراءة  ومستوياتها باختلاف مهارات القراء ، وأهدافهم من نشاط القراءة ، والجهود التي يبذلونها في سبيل تحقيق أهدافهم  "إن الهدف الذي يلتمسه القارئ من قراءة كتاب معين هو الذي يحدد نوع وطريقة القراءة ... وتتحدد الفعالية التي يقرأ بها القارئ ومدى تأثيرها بكمية الجهد الذي يبذله والمهارات التي يستعملها خلال القراءة"[4]

 - قراءة واسعة، ولكنها سيئة وغير مجدية. قراءة كل ما تقع عليه اليد بدون تركيز وبدون هدف واضح.
- قراءة واسعة جيدة ومجدية.
- قراءة في مجال محدود ، سيئة وغير مجدية: كتصفح الجرائد ، والمجلات
- قراءة في مجال محدود جيدة ومجدية .

أما المستويات فهي بشكل عام :
 
- المستوى المباشر، "الحرفي": وهو مشترك بين كافة النصوص غيرالإبداعية ، وهو في نفس الوقت  سلوك القارئ العادي: اشتريت سيارة جديدة بيضاء اللون. غايته نقل أو تحصيل معلومة.
 
- المستوى الإيحائي: آنت لا تراني أنا، إنما ترى مصالحك.
- المستوى السياقي: هذه غرفة للأطفال أو خم للدجاج ؟.

  النصوص المتماسكة المتسقة المنسجمة تتميز بـ : مقدمات صحيحة محددة وواضحة / نمو عضوي للفكرة أو الشعور أو القيم / وصف وتحليل ونقاش واستدلال موضوعي ومنطقي/   تحدد نوع المعرفة باللغة  التي يتميز بها صاحب النص وأوجه استعمالاتها الحقيقية والمجازية ، ووجود علاقات محكمة  بين الحقول الدلالية والروابط الاشتقاقية (الصرفية) والإيحائية  والقرائن وقواعد التوزيع والتركيب.

 موقف النص من القضية التي يعالجها: هل هو موقف الواصف ، أو المؤول للموصوف  ، المخبر المفصح الملمح  الموحي ، أو المستفهم  المنشئ الجاد أو الساخر؟ .لأن جملة "الورد الأحمر نوع من الورد". تختلف جملة " الورد الأحمر تعبير عن الحب" ومختلف عن "هل تعرف لماذا يستعمل الورد الأحمر؟ وهذة تختلف عن "هل يسبب الورد الأحمر الحساسية ؟.وعبارة" أرى ما آكل "ليست هي " آكل ما أرى" ، أو "أحب ما أحصل عليه " هي نفسها "أحصل على ما أحب" ،و" "أتنفس حين أنام " ليس "هي أنام حين أتنفس"[أليس في بلاد العجائب . حفل الشاي المجنون] وهما تختلفان عن "هل حذائي في رجلي أو رجلي في حذائي؟".

 السياق الداخلي (اللغوي):-

المستوى الأول:  مكوناته  هو كل ما بعد العنوان  مباشرة ، سواء في داخل الكتاب ، أو في الباب ، أوفي الفصل  أو في تراتب هذه ومقدار ترابطها. ورتبة كل عنصر من هذه العناصر تلعب دورا في تحديد معاني وأبعاد وقيمة ما قبلها ما بعدها ، وينسحب هذا على توالي الجمل والفقرات وطرق ترابطها أو تفككها.
المستوى الثاني : وهو مستوى تلوح مظاهره مع التقدم في القراءة ، ويجسده البعد الصوتي، والصرفي، والنحوي، والتركيبي، والدلالي. فالجمل والفقرات ، ثم الحركات : فالرفع وعلامته الضمة توحي بغلبة الصبغة الاسمية الابتدائية والخبرية  أو بالفاعلية والاستمرارية  ومتابعتها ، والنصب يوحي بالمفعولية والحال وما تبعها . والكسرة توحي بالجر وأدواته ودلالاتها ، والإضافة توحي وبالتبعية والصفحات يقيد بعضها بعضا ويحددها ويغنيها ويضبط اتجاهها. ويصرفها عن غيرها من الاتجاهات الأخرى.  تبدل صيغة و رتبة الكلمة في السياق الداخلي يؤدي الى تغير معناها بحيث يمكن أن يخرجها عن معناها القاموسي كمت رأينا أعلاه.
السياق الخارجي ( الحال والمقام):الذي يجري داخله ميلاد النص، كالمناسبة والدوافع لإنشائه، والحالة النفسية المصاحبة لعملية التواصل، وعملية التلقي، شروط المكان والزمان، الخلفية الدينية الاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية العامة. في القرآن أسباب النزول. وفهم البيئة التي نزل فيها القرآن، والثقافات واللغات واللهجات والعادات السائدة آنذاك. التحولات التي طرأت على المفردة العربية التي شحنت بمفاهيم دينية عبر التاريخ فتحولت عن أصولها القديمة ، أو أكتسبت معاني جديدة غطت كليا أو جزئيا المعنى الذي استعملت لتحقيقه في البدإ.
الوعي بالسياق وبأهميته يساعد على تفكيك النص بطريقة صحيحة وموضوعية  وكشف وتحديد ومناقشة وتقييم  معطياته . 
كاتب النص ومعتقده وثقافته العامة، ومجال تخصصه، وهواياته، وطبيعة تفكيره وخبرته منهجه في قراءة الأشياء :نصوصا ؛ وصورا ، وأفلاما ...
النص وجنسية وثقافة اللغة التي كتب بها ،  والدوافع الكامنة وراء إنشائه ، والقصدية المفترضة  الكامنة فيه (الوعي) ، وصيرورة تشكله ،  واسلوبه، علمي  أو أدبي ، أوعلمي متأدب. ومدى مهارة نجاح  الكاتب في التعبير عما يريد أو فشله   
عصر النص وقيمه:: زمن الكتابة وقد يكون موروثا حاز قليلا أو كثيرا من القداسة، وأصبحت الجرأة عليه خطرا على القارئ
القارئ وثقافته، ومعتقده ومجال تخصصه وطبيعة تفكيره ومنهجها وقدرته على التفاعل مع النص.
مقام القراءة :عصر القارئ وقيمه  ومكان إقامته " إن هذا الفن الذي أحبه كثيرا، فن القراءة، يتصل بالمكان الذي أعمل فيه"[5] ؛و" في كل مرة نعيد فيها قراءة كتاب، يمسي كتابا آخر"[6] لأن الحتميات الفيزيائية  والبيولوجية والاجتماعية  التي تحرك فيها القارئ الذي كنته غيرها هي الآن ، وذاك الزمان كتب في أعماقك خطوطه وانصرف ،و زمان القراءة الحالية ومحتوياته غير زمان القراءة أو القراءات السابقة . 
النص المقروء "نص ميت" لأنه لا يقبل الحوار ولا يعدل من وضعه، ولا يتكيف، ولا يعي ما يقول، ولا يتفاعل مع القارئ من جهة ولكنه مفتوح من جهة أخرى " 

1- القراءة الاستطلاعية: ممن امتلك مهارات قراءة المكتوب بطلاقة ودون تردد أو تلعثم مع مراعة أحكام الترقيم الوقف والفصل والوصل حسب  ما تفتضيه المعاني وسياقاتها مع فهم المقروء وتحصيل المعاني. وهذا بعد تحديد أجابات ولو مبدئية وضمنية للأسئلة المنطقية :لماذا تريد أن تقرأ أين ؟ ومتى ؟ ، ما هي الظروف التي تحيط مكان وزمان القراءة.كالإضاءة والهدوء والتهوية ؟.
القراءة السريعة وهي تحليق عبر النص هدفه استكشاف:-
- حجم النص، نوعَه أو الفنَ الذي ينتمي إليه؛ وطبيعة اللغة المستعملة فيه بشكل عام.
- موضوع النص، وأبرز عناصره.
- الإشكالية أو القضية المطروحة. ورأي الكاتب
- الاطلاع على القاموس المستعمل والغالب في النص
- الأساليب والأنماط الغالبة على النص.
- المصطلحات السائدة والأوجه التي استعملت فيها.

- طبيعة التحليل والمحاكمة الحجج والأدلة والبراهين التي يستند عليها صاحب النص. هل الأدلة مناسبة، هل تتوافق وطبيعة الموضوع، هل أحسن الكاتب استعمالها، هل يشعر القارئ بصدق الكاتب ومصداقية النص.
- منهجية النص وهندسته وبنيته.
المقدمة. العرض. الخاتمة.
الموقف المبدئي الذي تشكل لدى لقارئ من النص الذي طالعه وألم بأبرز معالمه.
الإلمام بمحتوى الكتاب وفهرسته بشكل عام.
محاولة تعديل وحصر الأسئلة التي تؤطر القراءة وتوجهها لأن" أي قراءة لا تبدأ من فراغ بل هي قراءة تبدأ من طرح أسئلة تبحث لها عن إجابات. وسواء أكانت هذه الأسئلة التي تتضمنها عملية القراءة صريحة أو مضمرة فالمحصلة في الحالتين واحدة وهي أن طبيعة الأسئلة تحدد للقراءة  آلياتها"[7]. "أسئلة تحاول أنت بنفسك أن تجيب عليها أثنا عملية القراءة".[8] التحليلية .فإذا كان هدفك من القراءة  هو مجرد الاطلاع ؛ أو المتعة ؛ أو تمضية الوقت ، أو توسيع المعارف العامة كان هذا المستوى من القراءة كافيا، لكنه لا يعصم صاحبه من الوقوع في المزالق : كالمعارف الخاطئة ، وتكوين المفاهيم  المشوهة أو على الأقل الضبابية العائمة ، والتقييمات والأحكام المعيبة.
ثانيا
القراءة التحليلية:(كشف بنية النص العميقة وعلاقات الأفكار المعقدة فيه):قراءة تتطلب جهدا أكبر ؛  ومهارات وكفاءات قرائية أرقى، ووقتا أطول، هدفها الغوص في أعماق النص المقروء، وتفتيت بنيته ومحتواه  ،و كشف مكوناته المعرفية ؛والعلمية، والفنية ؛  فكل نص هو نسق ؛ تولد جميع عناصره معا ؛ وتعمل في نفس الوقت  كشبكة من المكونات المتفاعلة ، الألفاظ ؛ والعبارات ؛ والجمل؛  والبنى النحوية والأسلوبية ؛  والأساليب وأنماطها ، وألوان المجاز بما فيه من صور بلاغية  ؛ وتلوينات بديعية ومقاطع؛  وأبواب وفصول ؛ ووعي الكاتب وتصوراته وقناعته وتوجهاته ، ويجب في هذه المرحلة من القراءة الاهتمام بها ؛  و فحص علاقاتها ؛ و آلية عملها ؛  ودورها في إنتاج المعنى ؛ و تحديده وبلورته  ونقله. وبالتالي فهمه بأفضل الوجوه(المقاربات) الممكنة ؛ وتمثلها بوضوح ، والوصول في الأخير إلى تشكيل موقف من الكتاب.مع الوضع في عين الاعتبار أن وجود النص ليس شرطا يقتضي بالضرورة وجود معنى ذي قيمة ، وحتى وإن وجد للجملة أو للنص معنى فوجوده لا يقتضي بالضرورة أنه صحيح أو ذو  جدوى كما يرى  أو يدعى له مصدره.


القراءة التأويلية :"توليد وضبط وتحديد  الأفكار المعقدة من  تراكيب  النص  وأشكال التضمين  المتحققة فيه وشبكة علاقاته " تختلف النصوص من حيث الثراء ، فهناك نصوص سطحية وفقيرة، لا تحتمل سوى مقاربة أو مقاربتين [لغة القانون والتشريعات] تصبح بعدها كل محاولة لاستنطاقها عملية عبثية ، أو في أحسن الأحوال تكلف ضرره أكثر من نفعه ، بينما هناك نصوص حبلى بالمعاني والإيحاءات  والرموز يشع من كل  معنى فيها معنى أو معان ، حيث تصبح الجمل والنصوص بما تحويه من معان هي بدورها إشارات ، وأنظمة لغوية مركبة ، تعبر عن معان في مستوى أرقى  ، و أعمق وأدق وأوسع، جلجامش ، أوديب ، في انتظار غودو.

في هذه المرحلة ينبغي التركيز على  الجانب التجريدي ، وعناصر المجاز والإيحاء، والأصول التي انبثقت عنها الصور ، والمآلات التي تطلبها من خلال بنية النص والسياقات التي تحيط به وتحكمه  مع ضرورة الحفاظ  بالقدر المستطاع على الفصل بين فكرة أو أفكار النص وأفكار  القارئ عن نفس الأفكار  لكي لا يحدث تداخل ينتج تشويشا في الفهم والتفسير والحكم نتيجة لكون "الفكرة هي شكل أفكارنا التي نعي من خلالها مباشرة هذه الأفكارنفسها" [9]غالبا ، ولكون عقل القارئ عادة ما يكون مبرجا مسبقا بحكم حتميات و معايير الوسط والثقافة والمعتقدات التي نشأ في حضنها وقد يكون النص المقروء بدوره هو الآخر  محكوما بهذه الحتميات فيأتي عبارة عن أكاذيب معرفية هي صدى للثقافة العامة والعقائد  السائدة  مثلما كان شائعا في تراثنا إلى عهد قريب وكما نجده على سبيل المثال لا الحصر  عند زكريا بن محمد القزويني 605هـ/1208م  وهو يتحدث عن القمر وخواصه  في كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات " أو كقولهم أن السماء سقف مسقوف، أو أن الأرض مسطحة  وثابتة تدور حولها الشمس والكواكب ، أو  الكذب العقائدي والأيديولوجي  كما في العديد من الديانات وما يحيط بها  مثل ما هو مشهور عندنا كقولهم  أن " الجنة تحت أقدام الأمهات" حديث نبوي صحيح، أو كالقصة المكذوبة التي جعلت للرسول جارا يهوديا كان يؤذيه والرسول صلى الله عليه وسلم يتحمله ، فلما مرض اليهودي عاده الرسول ، وكالكثير من الأحاديث التي تدعو إلى العنف والقتل واستباحة الأموال والأعراض ، وهو كذب ناتج عن أخطاء معرفية ،بينما الكثير مما كان أصحابه يتهمون بالكذب في مجال المعرفة أصبح حقيقة كقابلية الذرة للانشطار، وكحركة الأرض ودورانها  حول محورها وحول الشمس ، ومعرفة ما في الأرحام ولو نسبيا .

 وقد يكون وراء الكذب أغراض ودوافع  أخرى  ؛ كالسعي لتحقيق منافع ومكاسب اقتصادية ؛ أو سياسية أو اجتماعية  فردية أو فئوية ، أو نتيجة لأمراض نفسية ورغبات مكبوتة  ؛ تبتغي الإشباع ولو عبر الوهم. ولكن دون تعميم ودون أن نخلط بين الوهم والخيال ؛ لأن الخيال معطى موضوعي يتميز به العقل البشري و يعتبر هو عمود الأعمال الأدبية والفنية الراقية ، ومنبع المخترعات العلمية التي غيرت وجه العالم.وفي هذه المرحلة تقلب أفكار النص على جميع الأوجه ،وتفسر بما هو أقرب إلى المنطق وطبيعة الأشياء والموجودات  وخصائص المجتمعات .
.
 

 

                                                          ...يتبع






[1] - د / محمد إقبال عروي ، دور السياق في الترجيح بين الأقاويل التفسيرية؛ الشركة المصرية للطباعة،18/10/2013 ؛ ص25


[2] - القانون المدني الجزائري 2007- المادة 53


[3] - ألبرتو  مانغويل فن القراءة ترجمة  عباس المفرجي ، دار المدى 2014 ،بيروت ، ص 25


[4] -  موريتمر آدلر ، وتشارلز  قان دورن ، كيف تقرأ كتابا ،ترجمة طلال الحمصي ، الدار العربية للعلوم ؛1995 ، ص30


[5] - نفس المصدر ص13


[6] - نفس المرجع ص18


[7] - نصر حامد أبو زيد ،إشكاليات القراءة وآليات التأويل ،المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، المغرب  ؛ط7 ، 2005؛ ص 6


[8] -  موريتمر آدلر ، وتشارلز  قان دورن ، كيف تقرأ كتابا ...المرجع السابق . ص 65


[9] -سليفان أورو، جاك ديشان  جمال كولوغلي  فلسفة اللعة- ترجمة  د/بسام بركة؛ مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت 2012م. ص 153





القول ما قالت حذام

  قا ل ، وروي ، والقول ما قالت حذام مع افتراض صدق النية، وسلامة الطوية ، فإن البصر بطبيعته كثيرا ما يخدع ، فيوقع الإدراك في الخطأ، فينقل ال...