السبت، 5 يناير 2019

تسألني عن حضور الجنائز.



سألني أخي الأستاذ الميلود بوخاري عن رأيي في حضور الجنائز  بالصيغة التالية : [وماذا عن حضور الجنائز نورنا يا شيخ ] "

أخي الميلود

تسألني عن حضور الجنائز؛ وأنت تعلم بأنني لست رجل دين؛ وتعلم أنه  في عرفنا إبداء رأي العقل في الدين مشين  ولكن السؤال جدير بالتفكير؛ وقد سألته لنفسي  من قبل لأنه شغلني دون أن أهتدي فيه لقول فصل لعدة أسباب فدفنته ؛ وها أنت تبعثه من مكمنه:-

 أخي الميلود:

 إن الهدف النهائي من الجنازة هو إكرام الميت بالدرجة الأولى من خلال التعجيل بدفنه ؛ وذلك  بعد تغسيله و الصلاة عليه وأعلم أنه من تمام إكرام الميت حمل جنازته ومشي المشاة أمامها وسير الراكبين خلفها دون إبطاء ولا استعجال في صمت وخشوع والدعاء لها بالرحمة حتى بلوغ  المقبرة؛ حضور عملية وضعه في قبره ودفنه في صمت وتفكر وتدبر واعتبار ثم ينصرفون وهم يدعون له بالرحمة والمغفرة متوجهين إلى بيت ذويه لتقديم العزاء. هذا ما أعرفه وفق المذهب المالكي.

وفي رأيي فإن اختلاف الجنائز كان وسيبقى يختلف حسب اختلاف الموتى  ومراتبهم السلطوية و الاجتماعية والمالية ؛ وحسب اختلاف الحضور وثقافاتهم وأخلاقهم ونواياهم وأهدافهم ومعتقداتهم الدينية والمذهبية ؛ وهذا لا يسمح لي بإبداء أي موقف محدد؛ لكني ألزم نفسي بحضور بعضها ؛ والامتناع عن حضور بعضها الآخر، وهاك ثلاثة أنواع من الجنائز:

النوع الأول:

 جنائز رسمية بتكاليف نقدية ضخمة تصرف على عاتق خزينة الدولة فقيرة كانت أو غنية ؛وتظهر في شكل مواكب جنائزية ؛وترتيبات وإجراءات أمنية؛تجند لها وسائل الإعلام المختلفة لتمجيد الميت وذكرمآثره وبطولاته وإنجازاته والفراغ الذي تركه  حتى وإن كان المسؤول في قائم حياته بلا فضائل  ؛ بل وحتى لو كان مستبدا مجرما جر الخراب على البلاد والعباد وأكثر الحاضرين لهذه الجنائز فئات هم:

1- فئة رجال السلطة المنخرطين في الحكم بصفة قائمة وفعلية وهؤلاء هدفهم من الجنازة معرفة وقياس المكانة التي يشغلها رجال الحكم والجماعة الحاكمة التي كان الميت عضوا فيها وأبلى في خدمتها في قلوب أعوان النظام ومختلف أجهزته وعلى رأسها العسكرية والأمنية  وفي قلوب الشعب ؛ ولطمأنة باقي الشركاء في السلطة على وحدة الحلف واستمراره و الوفاء للجماعة ومبادئها وأهدافها والاستعداد للدفاع عنها

2- عائلة الميت وأقرباؤه: وحضورهم طبيعي وواجب أخلاقي ولكن هذا لا يمنع وجود دوافع أخرى مضمرة يمكن أن تظهر ويعرب عنها في محادثات واتصالات جانبية ثنائية أو جماعية أسرية عائلية أو مختلطة يكون مضمونها غالبا تعزية ونصائح ومصالحات وتوصيات ووعود.

3- فئة المستفيدين: وهي الجماعات التي استفادت من امتيازات وفرها لها الميت ما كان لها أن تحلم بها لولاه ولولا كرمه ورعايته وحمايته في قائم حياته. وهي إذ تحضر لتعبر عن حزنها لمصابها تعبر في نفس الوقت عن اعترافها بالجميل للميت وعن مشاركة أهله أحزانهم ؛ وتبحث عن استمرار الحظوة التي كانت تتمتع بها لدى من يخلفه سواء  في النظام أو في العائلة.

 4- وفئة الطامعين وصيادي الفرص : وهؤلاء يحضرون الجنازة إذا سمح لهم  ليظهروا  للناس أنهم من ذوي الحظوة عند السلطة وعند عائلة المسؤول الميت ويظهر هؤلاء أشد وأكثر الحاضرين حزنا عليه ؛ولكن هدفهم هو تمتين أو تحسين مواقعهم لدى من في السلطة  من خلال اغتنام الفرص للتقرب من القيادات المؤثرة ولإقامة أو تمتين علاقات قائمة أو تجديد علاقات قديمة ضعفت أو اهتزت من خلال استعلال الاتصالات المباشرة التي وفرها الظرف ؛ والظفر بوعود  ومواعيد ما كان لها أن تحصل لولا الجنازة.

5- فئة الدهماء: هؤلاء يحضرون بدوافع عقائدية؛ أو لإشباع غريزة التجمع وحب الاستطلاع أوالالتقاء ببعض أهاليهم و أصدقائهم؛  والمرور أمام الكاميرات خلال عملية التصوير ولأغراض أخرى.

وأنت ترى أن هذه ليس لها من الجنازة سوى الاسم؛ وترى أن الشيء الوحيد الذي يجمع بين هذه الفئات من القيم الجنائزية هو قول: آمين على ما يدعو به الإمام لا غير.

 فهل يمكن أن تعد هذه جنازة؟.

النوع الثاني : وفي المقابل هناك جنازة إمراه صالحة في دشرة من المداشر المتناثرة عُرفَت بصلاحها وتقواها ومساعدتها للناس وماتت دون وريث أو قريب  أو ثروة أو منصب فهبت الجموع لتشييعها لا لشيء سوى للاعتراف لها بالفضل وبحسن الذكر والتضرع إلى الله ليسبغ رضاه على روحها ؟؛فهل ما يقال عن حضور هذه الجنازة وعن حاضريها يصح أن يقال عن الجنازة الأولى؟.

النوع الثالث: وماذا نقول عن جنازة شيخ فقير معدم ترك أرملة وأيتاما جوعى باكين؛ فلم ينفر لمواساتهم أحد؛و لم يسر في جنازته سوى حملة نعشه الأربعة وكلبه ؛ بينما المئات من جيرانه يتفرجون من بعيد؛ وكل منشغل بشأنه وكأن الأمر لا يعنيهم؟. هل نقول عنها ما قلناه عن سابقتيها؟.

النوع الرابع :هي ما نراه في منطقتنا وهي عادة ما تعكس منزلة الميت وعائلته الاجتماعية والاقتصادية في محيطها وهي جنائز تجمع بين الإعداد والتحضير وبين العفوية والتلقائية؛ فيها من الجاه والوجاهة نصيب؛ وفيها من اغتنام الفرص المصلحية نصيب؛ وفيها من التضامن العائلي والطبقي والحزبي والمذهبي نصيب ؛ وفيها من الأخلاقي الخالص البريء الذي يبغي توديع الميت والترحم على روحه والدعاء له و يرضي الضمير ويخفف عن ذويه  نصيب.

 أن الجنائز في حقيقة أمرها مظهر اجتماعي تشترك فيه البشرية جمعاء وفي كل القارات على اختلاف الطقوس حسب الأديان والمعتقدات ؛ وحسب تنوع الثقافات وتمايز الحضارات لتوديع الميت والدعاء لروحه  والتضامن مع ذويه في مصابهم.

أما مقولة أن الجنائز تقام للوعظ من الإمام  وتذكير الحضور بما ينتظرهم وتخويفهم بعذاب القبر وما شابه فلم يعد ذا مصداقية الآن و إن كان احتمال صلاحيته واردا  للمجتمعات البدائية الأمية وذات المستوى العلمي والثقافي المحدود ؛ أما في عصرنا فأطغى الطغاة  وفي معظم الأديان والحضارات يعلم يقينا أنه سيموت؛ ويعلم أنه سيعاقب أو يجازى إذا كان يؤمن بحياة الآخرة؛ ويعلم بأنه سيتحول إلى رماد يذرى أو تراب يداس إذا كان يكفر بالأخرة وفي كل الحالات فإن الذي لم ينهه عقله ولم يعظه ضميره وأخلاقه لن يعظه  إمام في مقبرة .فالتخويف والترهيب من العذاب عوض الحث على حرية الإرادة والاختيار وتقديس الفرد لشرفه وسموه بفضائله والتزامه بما يجب عليه كإنسان كرمه الله  لم يكن في يوم من الأيام وسيلة لتربية الأخلاق إنما كان دائما وسيلة للتقية و لتربية النفاق.

هذا رأيي في الموضوع؛ وهو أن حضور الجنائز ينبغي أن يكون للاعتبار؛ ولإكرام الميت والدعاء له؛ وللتضامن مع أهله ومواساتهم وليس لأي منفعة أخرى جلت أو قلت.

 

 

القول ما قالت حذام

  قا ل ، وروي ، والقول ما قالت حذام مع افتراض صدق النية، وسلامة الطوية ، فإن البصر بطبيعته كثيرا ما يخدع ، فيوقع الإدراك في الخطأ، فينقل ال...