هناك
في الوطن العربي والإسلامي ظاهرة غريبة ممتدة في تاريخنا ؛وفي ثقافتنا عبر الأجيال؛ تتمثل في
أن عمل الأكثرية الغالبة من القائمين على المدارس ، ووسائل الأعلام ؛ ومختلف المؤسسات التي لها علاقة بالتعليم
؛ والتربية ونشر الوعي؛وتعزيز القيم النبيلة ، وتحقيق العدالة هم من يشكل الخطر
الأول والمباشر على الأجيال الناشئة ، إذ بمجرد أن تناقشهم تكتشف أن عقولهم مبرمجة
، و قد تم حشوها وإقفالها بإحكام ، وهي تتصور
أن ماحفظته حقائق مطلقة أبدية ،و أن مجرد التشكيك فيها ، أو المطالبة بإعادة النظر
في مدى صحتها كفر، وينبغي على العالم بأسره أن يقبلها باعتبارها كذلك ،وإلا فهو في تيه وعلى ضلال ،وهو خطر على الأمة
و أمنها ومستقبلها ، و تجدهم متأهبين للقذف
بكل التهم والشتائم وشتى المقذوفات التي يتصورها
العقل والتي لا يتصورها في وجوه مخالفيهم وتكتشف أن كل محاولة لتحريك عقولهم هي عبث وهدر للجهد والوقت فهم
"لا يقرأون في الكتب إلا ما سبق حفره في أدمغتهم ، ولا يرددون صارخين في
وجوه الناس إلا ما دربت عليه ألسنتهم ، ولا يسمعون إلا ما ألفتهم آذانهم منذ سن الخامسة"
، والخطر أن المجتمع الذي أنتجهم وشوه مداركهم ، وجعلهم لا يقرأون ، وإذا قرأوا لا يفهمون ، و
صنف من حاول الفهم منهم أو فهم
في صف الأعداء ينبغي أن يقمع أو يعدم ”أنت تفهم ياك؟“ تجد هذا المجتمع يحرص كل الحرس على إرسال أبنائه إليهم ليسيتنسخ منهم أجيالا جديدة؛ تحافظ على نفس التحجر
؛ وتجتر المجتر ، وتقتل كل من رفض التكرار السخيف ، ولذلك تجد عندنا
كل شيء مزيف لا يعكس واقعنا لكنه يعكس واقعا مرت عليه مئات بل آلاف السنين : تجد رئيس جمهورية (منتخب) في أفهام الناس ، لكنه في حقيقته وجوهره شيخ قبيلة بدائية، أوخليفة أحول ؛ دستوره
لا أريكم ، ولا يحق لكم أن تروا إلا ما أرى، أو سلطان كأبي العباس السفاح يفرض الأمن والأمان في مملكته
بالسم والسيف، وبالتجسس على "الأعداء "في الأعراس وعلى الثكالى والأيتام والأرامل في المآتم والمقابر، أومن هو أقبح منه لا يزحزح عن كرسي التسلط إلا بموته أو قتلة أو بانقلاب؛
وتجد عندنا قائدا عسكريا يفترض أن تحكمه القوانين العسكرية ، ووهب نفسه للدفاع عن حدود
الوطن وأبناء الأمة،وهو لا يتحرك إلا بأوامر سلطة تنفيذية تعبر عن إرادة الشعب المسؤولة أمامه ، لكنه في حقيقته وفي واقع الحال هو من يستخدم السلطة التنفيذية لتحصيل مزيد من المصالح والمكاسب فهو
نسخة للحجاج بن يوسف الثققي ،وهو نموذج مجسد ومتحرك للإنكشاري المرعب الساكن في الذاكرة الجماعية ، والذي قد يهاجم
المدينة إذا ما أغضب أو هولاكو حين يزحف ،
,أن وطنه ومملكته التي يغار عليها ويشهر لاجلها
سيفه هو ما امتلكه من غنائم وعقارات ولا شيء
وراء ذلك ، وتجد عندنا الطبيب ملاك الرحمة المفترض فيه أنه ذاك الإنسان الذي يهب نفسه
لمكافحة الألم والمرض ، ويلقي نفسه في وحل الأوبئة الجوائح غيرعابئ بالمخاطر المهلكة ،باذلا قصارى جهده ليحافظ على
حيوات المخلوقات وهي في أضعف حالاتها وآخر ما يفكر فيه هو الثمن غيرأن ما يصدمك عكسه إذ كثيرا ما تجد نفسك أمام تاجر أو جزار أو راق ، وتجد عندنا الخبير المعتمد في نظر القانون
،وفي مدارك الناس، المفترض في وظيفته النبيلة أن ينير للعدالة طريقها ولكنه في جوهره ”كالحادي وليس له علم بالطريق“ خبيث مدلس مضلل ومرتزق
يطمس حق من لم يدفع لفائدة من يدفع ليضيف طابقا آخر لقصره ، وتجد القاضي الذي يفترض
فيه الخضوع للقانون وتطبيقه بحياد وعدل وموضوعية
إلا أنه في واقع الحال نسخة للقاضي العباسي أو السعودي يحكم بالفراسة ومقتضيات
المصلحة و الولاء والسياسة و.... وتجد المعلم
الذي يفترض فيه أن يحترق لينير طريق الأجيال المقبلة ، ويسهر الليالي لينتج
معرفة كانت قبله من المجهولات ، ويصحح الأكاذيب والمغالطات فيبدع ويحارب التقليد والإتباع .وعوضا عن ذلك تجده في واقع عمله
مستسلما لواقع بائس فرضته عليه سلطة مستبدة غايتها تشكيل مجتمع متخلف جاهل ،يسير نحوه حقول
بؤسه بدون حاد ، معلما لا يعلم إلا ما طلب منه
وبئس المطلوب، أجيرا، مجترا ، مخربا يصب الخراب الذي بعقله في عقول تلاميذه وهو سعيد بذلك و...وهكذا دواليك.
و على هذا يتشكل لدى المرء تصور خلاصته
أننا نعيش بالتضليل وعلى التضليل ، فأسماء المؤسسات عندنا مجرد أسماء بلا مضامين . وألقاب
الوظائف عندنا مجرد ألفاظ توزع أو تباع أعتباطا ؛لا علاقة لأصحابها بصفاتهم الوظيفية ، تماما كما أن الكثير من مفاهيمنا
التي شربت لنا لا علاقة لها لا بالحقيقة ؛ ولا بطبيعة النفس البشرية ، ولا بطبائع الأشياء.
وهي في أغلبها رواايات بأسانيد مصطنعة ؛ مكذوبة ؛ألفنا أن نصدقها ،وحرم علينا حق مراجعتها
، وإذا فعلنا فيجب علينا أن نكذب الواقع الشاخص أمامنا، ونصدقها ،ونكذب الثابت بالعلم التجريبي والممارسة المعاشة والمعيشة. نصدقها لأننا تعودنا
-أو أرغمنا على- أن نقدس القديم بغثه وسمينه ، ونقدس ما نسمع لا مانرى، ونفهم الكون
كما فهمه أسلافنا أو حكامنا ؛ لا كما هو، ومن رأي غير ذلك فهو خطر.