الخميس، 9 فبراير 2012

يوم ضل العيد طريقه


يوم ضل العيد طريقه

كانت جارتي امرأة فاضلة ، مرت حياتها السابقة منذ حلت بيننا حتى تجاوزت الأربعين صامتة ، تجهد نفسها في حفظ حقوق الجيران ، حتى أنها تقسو أحيانا على أبنائها لترغمهم على الالتزام بما كانت تعتقد ؛  أو تراه من بديهيات السلوك الاجتماعي الفاضل ، وكانت كما يبدو من ملامحها ، تكره من يحيد عن أخلاق الحي ، فالحي عندها هو البيت المشترك بين الجيران ، وإهمال رعايته في نظرها جناية في حق الصبايا والصبيان، وقتل لعنصر الجمال في الطفولة ، وبسبب ذلك كانت في خصام دائم مع المرحوم زوجها المهذار، وظلت - منذ أن حلت- مهابة الجانب من الجميع ، لا تستطيع أن تعرف على وجه الدقة إن كان جيرانها يتجنبون مواجهتها احتراما لها ، أو كراهية أو خوفا منها ، أما فيما يخصني فكنت أرى فيها عقل فيلسوف،ونوايا مصلح ، يعطي للقطيع معنى وجوده ، ويحدد له وجهة مساره ، وكنت احتفظ بهذا الإحساس في داخلي وأحرص على كتمانه، وأتساءل أحيانا:
- كيف يصبح الحي عندما تغيب جارتي؟ .
اقترب العيد، وراحت الكباش تتوافد على الحي، مجرورة ومدفوعة ، وتناثر ثغاؤها يخترق الأسوار، ويطرق الآذان ،ويثير النشاط والفرح لدى الأطفال ، فيطرد عن أذهانهم الخمول ؛ والكسل والرتابة ؛ ويحثها على الحركة و إبداع الحكايات الجميلة ، والأحداث الغريبة، أبطالها أطفال كالعصافير ، ولكن كباشها لا علاقة لها بالكباش ما عدا الأسماء والصوف الأبيض الناصع الذي يغار من بياضه بياض الثلج .
ولكباش العيد سحرها ، فبمقدورها - أحيانا- أن تحمل الكهول والشيوخ على الندم على إسراعهم في التقدم نحو الكبر بدون مبرر معقول .
كان الفصل خريفا، في هذه البقعة الطيبة من الأرض التي تشبه مقعد الكرسي المتأهب دائما لاستقبال المتعبين الذين يطلبون الراحة من فرط الإرهاق ، تحف أطرافها العليا غابة كثيفة الأشجار ،يجري عند أقدامها نهر يبادلها أسرار الحياة.وبحلول هذا الخريف يكون قد انقضى عامان على رحيل زوج جارتي التي يسكنني إزاءها إحساس مبهم ؛ يدفعني نحو تتبع أحوالها ، وقد لاحظت أن الحزن يغزوها بعنف مع عودة العيد كل مرة ، ويصارع كبرياءها فيهزمه، فتشحب ملامحها ، ويضطرب صوتها، وتتباطأ حركاتها،ويضعف حماسها في رعاية شؤون الحي، أرسل زوجتي لزيارتها والسؤال عن أحوالها ، وأنا أدرك أنني أفقر من في الحي وأعجز الخلق عن مساعدة غيري ، وأن المرحوم زوجها ما كان سيسأل عن أحوال أسرتي لو كنت أنا من مات ، بل ما أعتقد أنه كان سيحفظ لي حرمة ، ومع ذلك حزنت لغيابه ، فقد كان قادرا دائما على تدبير أضحية لزوجته و أبنائه، وكانوا يفرحون كل عيد ، وبفرحهم كان الفرح ينتشر في جزء من الحي توزع معظمه جارتي على جاراتها ، ومنذ أن مات تغلب الحزن عليها وعلى الحي .
ودار بخلدي أن أسعى قدر طاقتى ، كي اشتري هذه السنة أضحية ، خروفا ، ثغاء خروف ،عنزة ، صياح عنزة ، شاة أو شبه شاة ، آكل وأبنائي جزءها و أتصدق بالباقي ، أطرد الحزن عن الحي ، وأغري الفرح بالبقاء فيه للحظات ، معي دنانير لا تكفي أي نعم، ولكن إذا استعطت أن استعير مثلها فقد أحقق مبتغاي.
وبعد سعي ، وبعد خيبات ، حصلت على المبلغ ، وانتشر الثغاء في الحي ، وجاء الأطفال من كل صوب عصافير تطلب أيك الفرح .

خرجت جارتي تتبع أطفالها ، تستطلع الأمر ، و أسرعت زوجتي إليها تخبرها بأن أسرتنا الفقيرة التي لم تأكل خروفا منذ وجدت في ظلمه كوخها الحقير ستضحي هذه السنة على خروف بأكمله ، وكنت أتابع ما يجري بطرفي عيني من بعيد ، فرأيت جارتي تستعيد فرحها ، وكبرياءها ، وتنتصب في وقفتها،بل تستعيد شيئا من شبابها، وتحتضن زوجتي مباركة ، داعية بالخير والستر والقبول ، فغزاني الزهو من الداخل ،وأحسست أن بإمكاني أن أزرع الفرح ،رغم أن الثمن باهظ.
عدت إلى البيت مساء، فوجدت زوجتي قد أعدت للخروف كل ما يحتاج، ماء، وحشيشا، وحفنة من شعير، وقد خضبت جبهته بشكل ملفت للنظر، وجلست قبالته، تتملى ملامحه وتدلّـله ، وهي تنهر أبناءها ليبتعدوا عنه ويتركوه يستريح.
دام الفرح ينام ليلا ببيتي؛ ويخرج نهارا إلى الحي ثلاثة أيام، وفي صباح اليوم الرابع، نهضنا فلم نجد الخروف في مكانه، تصايحنا، وجرينا أنا وزوجتي وأبنائي في كل اتجاه، أندب حظي في صمت وتعلنه زوجتي بأعلى صوتها. أما أولادي فقد غزت ملامحهم سحنة رمادية داكنة من اليأس، ووهنت قواهم فتبعثروا في زوايا الحي كأنهم حشرات أصابها مبيد قوي المفعول.
شاع الخبر، وراح البعض يعبرون عن أسفهم، وتضامنهم، والبعض الآخر يشيرون نحوي متهامسين:
- أول مرة يشتري أضحية فتسرق منه.
- وهل وجهه وجه أضحية ؟ .
- عمياء وتبتغي الكحل
- الهزيل إذا شبع مات.
- الضبع أولى بالخروف منه؟.
- أإلى هذا الحد؟ وما ذنب أبنائه المساكين ؟
وتنوعت التعليقات ، وسرت مع الريح تخبر الغابة والنهر بالنوايا.
الشخص الوحيد الذي كان حاله أكثر سوءا من حالنا هي جارتي، كانت الصدمة شديدة الوقع عليها، بل مدمرة، فكانت لا تقوم إلا لتجلس من شدة الوهن واضطراب الحركة، وهي تسأل الغادي والرائح : ألم تجدوا له أي أثر؟.
يجيبها أبنائي : لا يا خالة ، لا أثر.
أمسكت أصغر أبنائي من يده ،وسارت نحو بيتها يجللها الحزن ، وفي طريقها انعطفت نحو إسطبل متهالك لديها ، و تطلعت ملقية بنظرها إلى داخله، ثم أطلقت يد الولد كأنها لسعت منها ؛ ودلفت مسرعة وما لبثت أن خرجت صارخة ؛ تكاد تطير فرحا ؛ وهي تصرخ أنه هنا يستريح مجترا،إن الخروف عندي في الإسطبل لم يضع، وجرينا جميعا نحو الإسطبل ، ووجدناه مستريحا ، هادئا .يجتر في اطمئنان ، لم ينزعج ، ولم يتحرك ، قطعة الحبل في رقبته وساما يشهد على الجهد الذي بذله ليتحرر ، اقتربت منه جارتي وهي تدعوني لإلقاء القبض عليه ؛ وإعادته إلى بيت الطاعة ،وقبل أن تصدر مني استجابة، نهض من مكانه وسار نحوها ،وراح يدور حولها متمسحا بها ، فربتت هي على جبهته ورأسه وهي تلومه عن سلوكه السيئ الذي بدر منه ، وسارت به نحو بيتي يتبعها في طاعة عمياء ؛ وقد أحاط به صغارها وأصغرهم يسألها :أمي هل أهداه لنا عمي أو اشتريتيه لنا منه ؟ فتسرع هي الخطو ، وكأنها لم تسمع سؤال صغيرها.
و استقبلتهما زوجتي والجمع المتنوع من الصبيان؛ والمراهقين وراءهما محتفلا ، ولما وصلا أمام الباب استدارت حوله وأرادت دفعه إلى الداخل فأبى أن يتحرك ، فأمسكت زوجتي برقبته تريد جره إلى الداخل ؛ وجارتي تدفع مؤخرته ،وبحركة خفيفة متناسقة أفلت منهما وجرى مقهقها نحو بيت جارتي ، فتداعى الجمع المتنوع يريد إلقاء القبض عليه من جديد. عندئذ صرخت:
- دعوه فإنه مأمور ، دعوه يختار من يريد. وأقسمت على جارتي برحمة الله للمرحوم زوجها أن تتركه لديها هدية مني لأبنائها ؛ أضحية لعيدهم، وانصرفت والحزن بداخلي ينهش أحشائي :
- أول مرة أريد أن يفرح أبنائي بأضحية كبقية الناس. تفر مني الأضحية بإصرار إلى بيت أيتام ؛ عشية عيد الأضحى، وقادتني رجلاي بعيدا عن القرية ، سرت دون وعي على هامش الطريق العمومي، دون أن أعير حركة المرور الصاخبة الخطرة اهتماما ، وكنت أسير مطأطأ الرأس ، أتمنى في منطقة ما بداخلي لو تدهسني شاحنة فأستريح ، ولم انتبه حتى سد جسم شاحنة معبأة بالكباش الطريق في وجهي ، انحرفت أريد تجاوزها وإذا بصاحبيها يدعواني أن أمد لهما يد العون للنزع العجلة ، واستبدالها ففعلت بسعادة ، لأن انغماسي في العمل أنساني همومي ، ثم سألني أحدهما إن كنت أعرف محلا لتصليح العجلات فأجبته:
- يا سيدي أنا طوال حياتي لم أملك حمارا، فما حاجتي إلى معرفة من يصلح عجلات الشاحنات.؟.
انصرف الرجل وهو يبتسم، ثم ما لبث أن أطل من وراء الشاحنة مرة ثانية وسألني:
- هل لديك أضحية؟ فابتسمت أنا هذه المرة بسمة اليائس المتحسر ، وفهم مخاطبي الحال بسرعة، فأمسكني من يدي ، يجرني خلف الشاحنة كما كانت زوجتي تجر الخروف إلى داخل كوخنا ، ثم فتح بابها وقال لي:
- أختر كبشا يعجبك أضحية ، فهذه الكباش كلها أضاحي لسادة لم يعرفوا الغنم إلا لحما ، لم يدفعوا فيها سنتيما ، وأصحابها طلاب جاه يدفعون في سبيله بدون حساب ، والناجي منها خارج من الفساد ومثلك أولى بها وأحق، وقد أعنتنا ، وهذا أجرك .
كان الرجل يتخير خير كباش الشاحنة وهو يتحدث، ولم ينه حديثه حتى أقلعت الشاحنة ، وتركتني واقفا على قارعة الطريق، أمسك الكبش بيدي ، وتمسك الحيرة بعقلي تعذبه :كيف ضل العيد طريقه فمر بحينا ، وحل بكوخنا؟؟ !!
الضيف حمراوي 12/12/2010


 


الأحد، 5 فبراير 2012

ملح البحر

ملح البحر
أنزل من قارب الموت منهك القوى ، يصارع غيلان ظلام، أكلت –وتأكل- كل شيء على اليابسة وفي البحر ،فتزداد بطونها بروزا ؛ ويضيق المكان من حوله؛  ويتعفن الهواء ، تأكل وهي ترتل آيات المراثي الموقعة على جماجم الضحايا، وتشرب دموع الثكالى وتمتص نسغ الشرايين.
يصارع كيلا يلج سرداب الغيبوبة...وكر الغيلان .
أحس وهو على خط العتبة- ممددا على الخط تماما - أن هناك من يساعده، شبح أبيض لطيف ولكنه ضعيف، يصفع خديه برقة كي يبقيه على صلة بالوجود، أو على الأقل على العتبة علها تكون منطلقا لعودة الغريب، لعودة الطريد.
وقال بصوت يزدرده الوهن يخاطب الشبح: هل وصل غودو؟؟ جئت لملاقاته.
أجابه المئزر الأبيض : غودو وصل منذ أمد، وكان في انتظارك لكنه مات منذ سنوات، قبل أن تصل أنت.
وانحنى نحوه؛  فأحس قبلة حارة؛ تذيب الصقيع عن الجبين، ثم سقطت على ناصيته دمعتان.
قال الشاب: ولماذا غامرت أنأ إذن ؛ وقطعت البحر ، وشربت الملح المر؟؟.
وتسربت من مقلتيه .. دمعتان؛ فتعانقت دموع ضفتين، وأغرقت تضاريس الوطن، وأغمض عينيه وأسلم الروح، وبعد أيام استنشق البحر رماده، فصار السمك أكثر حزنا مما كان، يعاني حرقة الملح التي تزداد كل يوم.
الضيف حمراوي 14/10/2009

القول ما قالت حذام

  قا ل ، وروي ، والقول ما قالت حذام مع افتراض صدق النية، وسلامة الطوية ، فإن البصر بطبيعته كثيرا ما يخدع ، فيوقع الإدراك في الخطأ، فينقل ال...