الأحد، 1 سبتمبر 2013

الهدرة باطل

الهدرة باطل

أوردت الصحف الصادرة يوم  2013/09/01م  على صفحاتها ؛  أن رئيس الحكومة سلال قد دعا إلى ترك العلوم الإنسانية وفي مقدمتها اللغة العربية وآدابها ، والتاريخ لعدم جدواها ، و حث على ضرورة  الاهتمام بالرياضيات والعلوم الدقيقة والتكنولوجيالأننا لن نتقدم بـالشعر  " قل أعوذ برب الفلق" وهو يعتقد أنها شعر.
وأوردت جريدة الخبر- على سبيل المثال-  ذلك تحت عنوان  "- بعد أن وصفت تصريحاته بالمستفزة - النقابات تتهم سلال" بالتهكم " على اللغة العربية."


وإذا صح الخبر ؛ وصح صدوره عن رئيس الحكومة ، وإذا كان صادرا عن نية صادقة   لديه  يتطابق فيها القول الملفوظ بالمعنى المقصود  -لأننا نعرف شيوع  ظاهرة العي  الكبيرة في التعبير لدى مسؤولينا-  يكون السيد سلال أول رئيس يعبر بصدق عن حقيقة النظام في الجزائر ، إذ ما جدوى دراسة العلوم الإنسانية في دولة تفتقر مؤسساتها وتشريعاتها إلى أبسط المبادئ الإنسانية ، وما جدوى  دراسة لغة تمقتها السلطة  ؛ وتحتقرها وتراها عاهة وانتحارا فقد سبق القول أن  " L’arabisation en  Algérie est une suicide " .
وما جدوى دراسة تاريخ لا توجد فيه ذرة من المصداقية، صنعت وقائعه وأحداثه وشخصياته حسب الطلب الذي حددت شروطه رغبات وأهواء ومصالح الفئة المتحكمة ، وطمست أخرى حتى لم يبق لها أثر؟.

وإذا صح الخبر وصح صدوره عن السيد رئيس الحكومة ؛ فهو الدليل على أنه لا يعرف شيئا عن المنظومة التربوية، ولا  يعلم شيئا عن أسباب أزمات الجزائر المتلاحقة ، وعلى رأسها تحقق رغبته التي يدعو  إليها منذ أن كان هو يحبو في ساحات مدارسها، فباستثناء الحقبة القصيرة التي تلت الدعوة  إلى التعريب في عهد المرحومين هواري بومدين ومولود قاسم نايت بلقاسم وزير التعليم الأصلي والشؤون الدينية ، لم يعط المسؤولون والقائمون على التربية والتعليم في يوم من الأيام  اهتماما للغة العربية أو للعلوم الإنسانية ، إذ المعلوم عند كل من مر بالمدرسة ، أو كانت له علاقة أو اهتمام بها أن أضعف التلاميذ وأكسلهم بل وأغباهم   كان دائما هو  من يوجه  لقسم اللغات ثم يوجه الميؤوس منهم إلى قسم الآداب والفلسفة.
وهؤلاء هم عماد التعليم عندنا ، وهم أعمدة صحافتنا وقادة إعلامنا ، وهم رجال العدالة المنكوبة لدينا  بمختلف فروعها وأجنحتها ، ومنهم ساستنا وعلماء اجتماعنا ؛و دعاتنا ورجال الدعوة عندنا ، فأين رأى رئيس الحكومة الاهتمام الزائد بالعلوم الإنسانية والاهتمام الفائق باللغات  الذي استكثره وضيق عليه نفسه.
لو كانت هناك ذرة من الاهتمام أو التثمين للغة العربية وآدابها وللفلسفة ، وللغات ألأجنبية وآدابها ، و لو كانت هناك قوانين تسمح أو تنص على ضرورة توجيه  قسم  من أصحاب المواهب والقدرات والمعدلات المرتفعة إلى فرع الآداب والفلسفة أو اللغات لكان حالنا غير الحال الذي نحن عليه، ولكانت عدالتنا هي الأمن والأمان ، ولتمكن الناس من الانصراف إلى التفكير والعمل والتعبير بصدق وحرية وهم مطمئنون على أن حقوقهم وأرزاقهم وثمار عرقهم محفوظة مصونة وهذا هو الشرط القاعدي لأي نشاط بشري ، ولفرت الأدمغة ، والكفاءات العلمية  ورِوس الأموال  هاربة من الخارج تسعى نحونا من كل صوب  ، عكس ما هو جار اليوم. لو كان لنا رجال دين يحسنون قراءة ما يتلون أو يتلى عليهم لما تصدى للفقه والفتوى المنبوذون من المدارس،  والمتخصصون  العاجزون في الرياضيات والفيزياء، والبيطرة  ولما فرخ الإرهاب بيننا وتجذر ، لو كان  ذلك  وتحقق يوما لأصبح عندنا مثقفون "ينهجون للأمة  سبل سعادتها  في الحياة، و يغّذونها من علمهم وآرائهم بما يحملها على الاستقامة والاعتدال، وتحتاج إليهم في أيام الخوف ليحلوا لها المشكلات المعقدة و يخرجوها من المضائق محفوظة الشرف والمصلحة."[1]
السيد رئيس الحكومة يطلب تحقيق المحقق بين يديه قانونا وواقعا ، والمناقض للمادتين الأولى والثانية من الدستور ، والحمد لله أن المتسببين في الفضائح ومن كان على شاكلة الخليفة ، وشكيب خليل  وأشباههما في التخصص والسلوك ليسوا من المحسوبين على خريجي الفروع الأدبية. وإذا أتخذنا ما نسب إلى السيد رئيس الحكومة  موجها ومحجة يصبح من حقنا ومن حق حكومتنا ان نسخر من جامعه هارفارد العريقة وعلمائها لخبل عقولهم واهتمامهم بالأدب فقد  كتب  انريكِ أندرسون إمبرت  أستاذ النقد بجامعة هارفارد في كتابه    مناهج النقد الأدبي :

" فالجيولوجيون، وعلماء النبات، وعلماء الحيوان، والباحثون في  خصائص الشعوب، والاقتصاديون ، ومؤرخو الأفكار ، والخطباء الدينيون والوعاظ ، واللغويون والنفسانيون ، يستطيع أي واحد منهم أن يلقي بشباكه في بحر ألأدب ليصطاد أمثلة ومعلومات ،وإيضاحات ،وحتى زينة وزخرفة. "[2] هذا في الجانب النفعي المحض.  وهو في الأدب عرضا يأتي من غير قصد.

إن الإنسان بدون نوازع إنسانية يزرع بذورها الفضلاء  وترعاها التربية الوجدانية وتتعهد نموها العواطف النبيلة، وبدون  انتماء ، وبدون هوية ،وبدون أخلاق ولا قيم  توجه إرادته ، وتؤطر سلطانه، تدفعه إلى الخير وترده عن الشر ، وتملأ قلبه بالمحبة والإيثار والتضحية  وتطهر ذاته ووجدانه من الشر وأدرانه والأنانية وظلامها وفظاعة نتائجها. هو أخطر الوحوش الضارية على وجه الأرض ، وتزداد خطورته على قدر رفعة المنصب الذي يشغله .

من البديهيات الشائعة لدى العقلاء أن اللغة عند الأمم المتطورة مؤسسة اجتماعية ، وأخلاقية ، واقتصادية ، وهوية وجود ، وفي غيابها لا شيء  ولا حاجة لا لدولة ولا لحكومة، واللغات الأجنبية عند الامم الموجودة ، والتي تعي وجودها وأبعاده ما هي إلا نوافذ أو شرايين لتغذية الذات الموجودة ودعمها ، وقد لا يحتاج إليها إلا للرصد والمتابعة إذا كانت الذات قوية صحيحة مقتدرة.  والخطأ الأول هو النصان الخادعان المتمثلان في المادتين الثانية والثالثة من الدستور "الإسلام دين الدولة" و "اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية."  واللذان يجب  إزالتهما  تلبية لرغبة السيد رئيس الحكومة  قبل الدعوة إلى تهميش اللغة وعلومها ، أو التهوين من شأنها ، أو تعليق كسل وتخلف أهلها عليها . إذ هي اللغة المقصودة  الممقوتة  ، والعائق الأكبر الذي منع الجزائريين من ألٌإقلاع  في مضمار السباق نحو الرقي العلمي والصناعي  ، وهي التي زاحمت اللغات الأجنبية المرغوبة والممدوحة  بغير حق،   وكونها لغة الاسلام  دين الشعب   الذي يكون بدوره مصدر كل العلوم الانسانية المكتوبة باللغة العربية ، كما أنه  من أهم مصادر العلوم الانسانية في اللغات الأخرى وخاصة في الادب والشرائع لا يشفع لها . ولا ينبغي وضع أكبر عائق عن التطور والتحضر في صدر الدستور. إلا إذا كان ذلك إجراء شكليا يرضي العامة ويستغفلها ،لأن واضعها يدرك مدى غباء المحكومين ، وهو يدرك أن كتابتها تغنية عن تحقيقها بل وتمكنه من تحقيق نقيضها.

و إذا أخذنا بما نسب للسيد رئيس الحكومة ، وإذا كنا نعرف بداهة  أن وجود القرآن وما تفرع عنه من علوم ، ومصيره -  قوة وضعفا ، بقاء واندثارا - متوقف على اللغة ،و إذا علمنا أيضا أن تاريخ المرْء والمجتمع هو محصلة تمثل القسم الوحيد من الحياة التي تحققت موضوعيا ووجدانيا ، وكتبت بحروف لا تمحى ولا تنسى إلا بالموت ، تبين لنا بالدليل أن السبيل الوحيد للتطور  حسب رأي السيد رئيس الحكومة هو حذف المادتين أعلاه من الدستور ، لأن طبيعتهما تحتمان بقاءهما معا أو ذهابهما معا. وهما والتطور نقيضان حسبما نسب للسيد رئيس الحكومة ، إذا حضر أحدهما غاب الثاني بالضرورة
وحيث أن حذفهما لا يتصوره عاقل ، و حتى  وإن  حذفا  من الدستور كما كان الأمر إبان الاستعمار الفرنسي ، فإن حذفهما من القلوب والعقول مستحيل .
و لكن  من زاوية أخرى فلعل السيد رئيس الحكومة محق في بعض ما ذهب إليه ، إذ ما فائدة دراسة تاريخ أغلبه روايات مزيفة ,و أحداثه الموضوعية مطموسة  ومشوهة أو غير موجودة أصلا؟  كتب بأيد أعداء ألأمه  والمندسين والمتسللين. والمنتفعون به هم أعداء الأمة ذاتها بل قد يكون منهم قادتها وراسمو غاياتها ومسارها ؟
وما فائدة تدريس لغة في مجتمع  هو أول من يحتقرها ، ويحط من شأنها ،  لا يستعملها أفراده ومؤسساته ،ولا يحسن المسؤولون عليه تركيب جملة صحيحة منها شكلا ومضمونا ،  ما جدوى تدريس لغة لا معنى لألفاظها لدى قضاتها والساهرين على العدل فيها ،بحيث تتميع المعاني ، وتذوب حدود المفاهيم والمدلولات  بين أيديهم، ويغدو المفعول به فاعلا  والفاعل مفعولا به تركيبا  وقضاء  وتصير الصفة حالا والحال تهمة تركيبا وقضاء فيعنى حكم البراءة فيها ، إدانة ثابتة للبريء ، ويعني الغش خصلة حميدة للمتصف به ، ويعني رهن العقار بيع ثابت ينزع ملكية المالك ،  وتطهير المرهون  هدية للمرتهن ،  والكل فوضى لأن  القضاء  من بدايته إلى منتهاه لغة  في لغة فماذا يعني دراسة لغة لا يعرف المشتغل بها مدلولاتها ، او لا حرمة لمدلولاتها وقواعد بنائها لديه ؟ تخلق الفوضى، وتنشر الغموض، وتطمس الرؤية و تقصم ظهر العدل ، وتشيع العداوة والبغضاء ، وما جدواها؟.

و قبل لوم السيد رئيس الحكومة أو استنكار أو استهجان  ما نسب إليه يجب أولا بحث علاقة الإنسان باللغة والعلوم الإنسانية ، ونص الإشكالية هل الإنسان هو الذي يخلق اللغة والعلوم الإنسانية ، أم اللغة والعلوم الإنسانية هي التي تشكل الإنسان ؟ وما جدوى تدريس العلوم الإنسانية لكائنات لا علاقة لها بالإنسانية ولا تمتلك أدنى مواصفاتها ؟. وبعبارة أخرى هل لدينا إنسان؟.

نعم  لا حاجة لتدريس العلوم الإنسانية في أمة تحركها الدوافع والحاجات البيولوجية ولا شيء وراء ذلك ،و خارج كل الأطر الأخلاقية والٌقيم الإنسانية ، وتستعمل اللغة فهما وتفسيرا على مقاسها ، وفي حدود إشباعها ويصبح كل ما يحقق الغاية البيولوجية لغة.

حين يتحدث مسؤول في البلدان التي تتشكل مجتمعاتها من البشر يهتدون ،  بتفكير علمائهم ومفكريهم وصانعي إنسانيتهم عبر العصور من أرسطو وأفلاطون وسقراط وكنفوشيوس  إلى  بيرتراند راسل وريتشارد دوكنز ، وجون لينيكس ويستشهدون بأقوالهم بدون تحريف أو تزييف ، وعن فهم عميق ووعي متبصر ، وحين يتلكم المسؤولون في بلداننا  ، يخلطون العربي بالأعجمي ، والعامي بالفصيح ، والخاطئ بالصحيح ، والحابل بالنابل  ويأتون قعقعة وهدرة،  لا يفهمون هم أنفسهم معناها أو مغزاها ، لأن الكلام هو ما أفاد فائدة يحسن السكوت عليها وعبر عن بنية فكرية في ذهن صاحبة يتوافق وبنية الواقع المادي والمعنوي المراد التعبير عنها واستفز ذهن المتلقي .

إن اللغة والعلوم الانسانية وضعت في الأصل للمجتمعات الإنسانية ، وبذلك قلا داعي لتعليمها أو تدريسها لقطعان متقاتلة متصارعة لهه تقنياتها في تحصيل  متطلبات العيش البيولوجية، مجتمعات  لا يرى فيها الأفراد إلا أنفسهم ، تجمعات  أو قطيعان كل من فيها نرسيس يعشق صورته عشقا جنونيا مميتا، لم ير في البحيرة سوى صورته ؟.

ما فائدة تاريخ يخلد أبطالا قدموا أرواحهم الزكية قربانا ، وتركوا أبناءهم وأباءهم تحت رحمة أعدائهم ،نهبا لنوائب الدهر في سبيل مصير وهمي لم ولن يتحقق لأنهم  لم يدركوا أنهم كانوا بشرا أسوياء في مجتمع لا إنسانية فيه.

 ما فائدة تاريخ شهيد رواه عنه ، وسجله في غيابه حركي وخائن، كان وسيبقى خصمه إلى يوم الدين ، وما فائدة تاريخ ثائر منفي مات في أدغال غويانا الفرنسية ـ أو في مجاهل كاليدونيا رواه وسجله  "قايد" و"باشاغا"  و"شانبيط"  وصادر أملاكه وكان ومازال  هو اليد الضاربة للمستعمر على مدى قرنين ويزيد.

الحق كل الحق مع السيد رئيس الحكومة ، اللغة يُحتاج إليها و تُستعمل بين البشر ، وهي إحدى شروط وعلامات وجوده ،  والدليل الوحيد على وجود عقول تشتغل ، وعن فكر وقيم تخدم الإنسان ، ولا مبرر لوجودها خارج المملكة الإنسانية ، اما التفاهم في حدود المتطلبات البيولوجية  فهو متاح حتى للثيران. والثيران لا تحتاج إلى لغة أو تاريخ أو قانون  أو علوم  إنسانية لأنها قد تفسده ، ومن زعم غير ذلك فهو لا يفهم اللغة في أي مستوى كانت.

 



[1]  أثار الإبراهيمي ، محمد البشير الإبراهيمي ، بتصرف طفيف


[2]  مناهج النقد الأدبي ، أنريك أندرسون أمبرت ، ترجمة  د/ الطاهر أحمد مكي ، مكتبة الآداب ، القاهرة 1991 ص 12، 13
 
 
أبشع الوحوش و أخطرها وأقذرها على وجه الأرض هو الإنسان إذا تجرد من الأخلاق

القول ما قالت حذام

  قا ل ، وروي ، والقول ما قالت حذام مع افتراض صدق النية، وسلامة الطوية ، فإن البصر بطبيعته كثيرا ما يخدع ، فيوقع الإدراك في الخطأ، فينقل ال...