الجمعة، 20 يناير 2012

أحزان آخر العمر


أحزان آخر العمر
-1-                         
رغم أن العمر فات
وانتهى المسار في نهاية المدار .
 ها هنا ؛ على الربوة.
تاركا ندوب الذكريات.
لا صدى ماض  تلاشى ، لا غدا.
- كسيحات بلا صوف
عاريات
في محيط من صقيع 
يملأ الجوع بطونها ، والعواء
 واعتباطا  ؛ سمها ذكريات
 تسثيرها آهة  ؛ تضري أوارَها آهات.
ما الذي نكسب، إن كنا سنشقى ونتعب
 كي نبيع في الأخير
أغلى ما في الحياة بأ بخس اللذات ؟
-2-               
رغم أن العمر فات
واختفى  كالسراب  .
تاركا خلفه قطعان العذاب
بصدري سارحات  
لها في  داخلي  مواويل  يشتاقها الحزن 
من ينابيع الشرايين تشرب.
وتخط الترانيم فراشا ؛ لضريح ضم في أحضانه  رفات.
تنسج الغربان  عزفها 
حبرها سواد العين ،
 والأقلام ، ما تشظى متطايرا من رمق الذات.
 رغم كل الذي فات
لم  أزل مثلما  كنت دوما .
غريبا
أضرب الأرض  الغريبة بالروح  النقية
باحثا عن بذرة أجمل الوردات
لأزرع في   زوايا القلب وردة .
 وأبعث بصحرائي واحة؛  ليست ككل الواحات.

لم تخلق من قبل
و ما خطرت ببال قراء الغيب
 ولا طافت بها أوهام  العرافات.
-3-                     
 رغم أن العمر فات
 رغم تعدد الأعداء، والعداوات
رغم الإعصار، ورغم أن الأمطار
 كانت بصدري –دوما-  أسنة وطعنات.
تلقيتها ؛ في صمت
وحيدا.
أسحب أشلائي في ثنايا الدروب .
ألعق  جراحي  ...
 وأدفن بداخلي جحافل الأنات.
وأصفح فما تلك منهم إلا مجرد زلاّت  

والآن... 

عند تلال الغروب.

يجلس سيزيف
يرعى - في زوايا القلب- شوقا

لنظرة وداع
لهمسة
للمسة
لدمعة حب
 للحن هو أروع الأصوات.
يكون زادا لآخر الرّحْلات

الأربعاء، 4 يناير 2012

نحن والعالم -3

نحن والعالم -3
 ..........واهــــــــــــــــــزز
حين تجد أن أولي أمورنا ، لا يسندونها إلا لمن أثبت بطريقة عملية،ولأطول مدة ،فساده وفشله ؛ وكراهيته لشعبه ، ولأبناء جلدته :  خلقا ؛ وترابا؛  وثقافة؛  وتاريخا . وبرهن على قدرته وبراعته  في إفساد الجميع ؛ وإفساد  كل شيء

وحين ترى أن ما يهم أولي الأمر في بلدك ؛ ويقض مضاجعهم ، هو كيف يكذبون ؛ ويناورون ؛ ويخدوعون السذج . وكيف  ينهبون ، ويسلبون المال العام والخاص بشراهة أكثر ، وكيف  ينتهكون بتوحش، الحرمات والمحارم والمحرمات، وكل ما يرمز للكرامة الإنسانية بمعناها الواسع والضيق

حين تري كل واحد من أولي الأمر، إذا ما سئل بادر بالجواب، وبإسهال مخيف، وبدون حياء أو تحرج، ودون تفكير ليقول بأي لغة أي كلام  والسلام، يدخلك به إلى عالم السيريالية والعبثية المطلقة،وبنفس التلقائية واللامبالاة ، ينتقل إلي تنفيذ أهوائه ونزقه وإشباع نزواته المريضة بعنجهية المستبد ؛ موظفا إمكانيات الأمة " البايلك" بأسرها ، وهو يدرك إدراكا يقينيا أن لا رقيب ولا حسيب يردعه .

وحين تحدث الكارثة ؛ يتبرأ وبنفس الاستخفاف من كل مسؤولية ، ويلقيها على أتباع أسوأ منه ؛  كان قد انتقاهم  واختارهم بعناية لسوء أخلاقهم وأعمالهم ، وفوض لهم حق العبث بحرياتنا ، و بممتلكاتنا ودمائنا وأعراضنا ، وحماهم وحصنهم بمراسيم ،وقرارات  تذوب عند أطرافها كل المساءلات  ، مواصلا - بتنصله من تحمل مسؤولياته  في الجرائم التي ترتكب يوميا في حق البسطاء  الأبرياء الصامتين -  إذلالَنا وقتلَ الأحاسيس البشرية فينا.

حين ترى يقينا أن الجرائم التي تتورع إسرائيل عن ارتكابها في حق أعدائها ؛  يرتكبها أولو أمورنا -نحن العرب- مفتخرين متباهين ، برجال ،وجيوش خلاياهم من خلايانا؛ وبأسلحة، أجورها و مبالغها ، كانت في أصلها أثمانا لأرغفة ضحاياهم من الجياع والمحرومين .


وحين تجد من بين جيرانك؛ وأقاربك المصابين بمصائبك ،والمنكوبين مثلك بدواهي الفساد المستشري في كل حي، وزنقة،ومنعطف  وزاوية  ؛ يداومون على السكر؛ و الرقص ، والربا  ، وفي ذات الوقت  يتشحون بتواشيح  الدروشة ،وكل طقوس العبادات  والورع  المخادع، وبشكل يبعث على اليأس.

وحين ترفع صوتك معبرا عن قناعتك : بأن مفهوم الوطن التقليدي قد صار سخيفا ، وأن وطنك الحقيقي هو كل بقعة على وجه الكرة الأرضية وجدت فيها كرامتك وأمنك ، وأن أهلك من أهلوك وضجوا مستنكرين متى مست إنسانيتك ، لا من بهدلوك وداسوك فأهلكوك ، فيجيبك الضحية قبل الجلاد مكذبا ، صارخا: ذل أخي ولا ذل العدو.

حينذاك تتأكد أن هذه الأمة ، لن ينصلح لها شأن ولن تقوم لها قائمة أبدا ؛ و كل حركة تبدو منها هي هرولة نحو الهاوية..
  ... فرحة في بلاهـــة ،قدرها أن تتحرر سنة وتستعبد مائة سنة ، فإذا تحررت مائة سنة  استعبدت ألف عام.

الاثنين، 2 يناير 2012

الباب والأغراب


 الباب والأغراب

 
    يتسلل الضوء حبالا من ذهب تنغرز في الجدران المقابلة وتنفجر في الغرفة معلنة أن هناك نهارا جديدا يحقق عبوره ، النهار عنيد وهذا دأبه ، و قد كانت النفس منذ الصبا ، تهفو ؛ وتندفع للقائه ؛ فيطيعها الجسد ، أما الآن....
الضوء نفاذ، يستغل كل شيء ليحقق عناده، فضولي يتسرب عبر الثقوب والشقوق، عبر الأنفاق والكهوف ، ليعلن وجوده للكائنات، ويعري المستور.
ويتذكر الطيب يوم اندفعت حبال الضوء؛ لأول مرة عبر ثقوب الباب؛ لتطهرها وتمحو الألم ؛ وتطارد الرعب؛ وتمنح الدفء للأشلاء؛  وللدماء المقرورة المتخثرة ؛ المتعانقة في برك.
كانت حبال الضوء، تكتب، تقول وتغني : سيبقى الإنسان أخطر الآفات ، يهلك الأحياء والأحلام والحياة .
حبال الضوء تسللت من خلال الثقوب التي مر عبرها رصاص الجريمة ؛ واستقر في الأجساد المستريحة في استرخاء ؛ وطمأنينة ؛ ورضا .
 كان الباب حين أمطرته الرشاشات موصدا ، وراءه ظلام دامس؛  يلف نفوسا تلهث متوثبة، أعين تدور في محاجرها ، تقلص الإحساس وضاقت دائرته ، ورق الخط الفاصل بين الموت والحياة حتى كاد يمحي ،... ما معنى الموت ؟؟.
 الموت هي أن لا تكون هنا ، أو على الأقل هي ألا تعي أنك هنا ، وأن تتخلص إلى الأبد ، من أناك ، ومن فكرة الخوف و الانتقام من الآخر، عدوك المفترض . وأن تستغني الروح عن الجسد، وعن المكان وعن الأحلام ,.
ولاحت بذهن الطيب مقابر وبقايا مقابر،  بعضها وجوه أصحابها باتجاه المشرق ورؤوسهم نحو الجنوب ، وبعضها وجوه أصحابها باتجاه الشمال ورؤوسهم نحو المغرب لم يعد للاتجاهات لديها معنى ، وكل مدفون فرح بنومه الأبدي .
رفع يده بصعوبة ، ومسح وجهه بجمع كفه ، فشعر أنه أزاح قطعا من أكوام ضبابية داكنة استقرت على روابيه ، وأحاطته بهذا الخواء الرهيب ، فراغ ممتد في فراغ أقسى، ومال برأسه قليلا نحو الباب و تساءل:
- ما وظيفة هذا الباب؟ .
الباب يسد منفذا ، أو يؤدي إليه فما وظيفة هذا الباب ؟. لاشيء إنه فقط أثر لموطئ قدم حمقاء ، لخطوة خاطئة خطاها التاريخ فداس ضحاياه في غفلة ، طحنهم وعبر ، وبقي الباب يحتفظ بمداخل الجرح ، بثقوب الدم ، شلالات تتدفق على الآفاق ، تزين شفق الأماسي ، وشفاه الأسحار ، ويزيدُ وَلَهَ الأقمارِ العاشقةِ المهرولةِ لمواعيد اللقاء في مواقيتها .
كان من المفروض أن يدفن الباب في المقبرة إلى جانب من دفن؛ الجميع قد دفن حتى التاريخ ذاته، ولم يبق سوى الباب، وآثار الأغراب.
وأنا أيضا سأدفن عما قريب ، أما الباب فسيبقى في مكانه ، يدور على محوره الخشبي
و يصر صريرا فيه مرارة الحزن الجاف الذي يلج إلى أعماق الأرض ، ويصعد إلى عنان السماء، يروي حزن الإنسان ووحدته ، يتنفس الهواء والنور من ثقوبه التي حولها إلى مسامات للاستنشاق.
دفن العسكريون الأغراب الذين سددوا عليه رشاشاتهم منتشين ، ودفن ضحاياهم ، أهل تلك الدار ذات الباب ، التي كانت، و الذين كانت أجسادهم تلهث ، تريد استبقاء دمائها المندفعة إلى الخارج عبر الشرايين ، منساحة من الثقوب الوردية المرسومة على صدورهم ، تريد لثم النور والغوص في أعماق التربة ؛ تروي لظى الشوق ؛وغم العطش وألمه.
تعاكست – يومها- اتجاهات الرشاشات ؛وزخات الرصاص شأنها شأن الصراخ والعويل وأصوات المواشي ؛والطيور الداجنة ، وصار القتل مجرد لعبة ؛لا تختلف عن غيرها من الألعاب إلا في درجة خطورتها بالنسبة للأحياء، كان الطيب يومها مشاركا في اللعبة صبيا منكمشا مكورا على ذاته في ركن البيت ؛ ولحسن الحظ أو لسوئه أخطأته قدم التاريخ ، وادخرته للمشاركة في ألعاب أخرى لاحقة، تدور معظمها حول اختبار مدى قدرة الإنسان على التمسك بالحياة و احتمال الألم.
النور مازال يتسلل من ثقوب الرصاص ، يحاول بعناد أن يطرد العتمة ـ أن يفضح المسرح الذي جرت على عتباته معركة التحرير ، تحرير الأرواح من ربقة الأجساد ، إزالة الحدود بين الأعداء، القاتل ليس عدوا للمقتول بالضرورة لأنه في أغلب الأحيان لا يعرفه ؛ وليس بينهما سابق خصومة ؛ ولأنه بفعله يوجد حلا لمشاكل القتيل.
الباب الوفي لصدقه فقط هو الذي مازال يحمل مخطوط العداوة على ظهره ؛ يبرزها لمن أراد الدخول أو الخروج ، والمخطوط يحدد العدو بدقة ؛ العدو هو الذي يبرزه تلاشى الغريب ،يحترف توسيع الجراح ، يبقي جراح الضحايا مفتوحة لأطول مدى ، وبقلوبهم ما بالباب من الثقوب ، تنفتح كلما دنف دانف ؛ وكلما غادر مغادر ، تقوب ، مسارب تغور بأعماق القلوب ، تحفر بشظايا العجز مساحات أوسع للتعاسة ؛ تجعل الجسد يتمرد عن الروح ، يخرج عن طوعها ، فلا يعود هناك معنى للحلم أو الأمل.
وتلك حال ورثتها -أيها الطيب- منذ هدر الرشاش بساحة البيت أمام الباب.ومنذ أن وقف جسدك قبالة روحك، كل مستقل بذاته.
سأل الناس،عن الضحايا كالعادة ، سألوا هل بقي هناك أحياء ، ثم تأسفوا كالعادة ،
 و انصرفوا ,تركوا نصفي مذبوحا من الوريد إلى الوريد لم يروه ، والنصف الآخر سليما واقفا ، رأوه ، أحنوا له رؤوسهم وانصرفوا مغادرين.
كان الضرب في جنب الجبل ، وقد صار الواقف جزءا من الجبل ، و المشكلة كانت دائما في الجبل ، الجبل يرفض أن يتزحزح ، أن يركع ،لا يمكن لأحد أن يحاوره ، يصمد يدافع بشراسة عن هويته ، والحرب ضده كانت مستمرة و شرسة أيضا ، غسل بالنار عشرات المرات؛ بأيد الغرباء والأعداء ؛ وبأيد الأهل والأبناء ، ولكنه كان يستعيد جلده دائما، ينبعث من العدم ، تخرج الجذور من تحت الأرض خضراء زاهية ، تعيد نسج أنشودة الحياة بنولها الدوار، وتعيد تلقين نفس الأغاني الحزينة لنفس الطيور ، وتغذي الأغصان بنسق التاريخ الخالي من الزيف ، والطيب كان - في جزء منه - جزءا من الجبل يستعصي على الانحراف و الانجراف ...؛  يستعصي على الصدأ والالتواء.
كتب في الباب بدم الضحايا : لا ضير من النار في جنب الجبل ، أرواح ساكنيه مباح قتلها بحكم العادة المتأصلة منذ الأزل، وللقتل لذة تغوي القتلة ، وتبهج الأعداء وترضي المتفرجين .
- أنا أهذي أين الكتابة التي ترى؟؟
- أنا لا أهذي؛  الكتابة في قلبي؛  وفي قلب الباب ؛ ولونها فاقع بلون الشفق.
- الأمر محزن ومأساوي.
- نعم الحياة كلها مأساة... بالنسبة للضحايا.
- ومأساة أن تحدث الروح ذاتها ساعة احتضارها؛  بأشياء لم يعد لها قيمة.
- لا الوعي قيمة في ذاته .
تعمق أكثر يوم أنهدت أصوار البيت ، واتكأ الباب لسنوات على الجدار المتهالك  ، يغتسل بماء المطر ، ثم عاد إلى مكانه ليواصل دوره ،فالبيت بدون باب ليست بيتا.
- والوعي في الروح الطاهرة أمة، والأمة الفاسدة الخامدة جثث تهلك الكون قبل أن تهلك.
-الأمة معظمها أغراب ،أعداء متنكرون؛ يعيشون بأقعنة تحمل ملامح أهل الجبل.
وتمنى الطيب لو تطاوعه حنجرته ، فيمد صوته بأنشودة : من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا..
انتكست أمنيته.
- كيف تصرفت الجثث يوم الإغارة؟؟!.
- كانت تقف هناك خلف أو داخل الأغراب ، تنتظر خلف الأقنعة أن يجف النجيع ،لتنسق من الزيف شعارات تزرعها في ثنايا الجراح ، وتقتات على الحكايات ومهرجانات المواسم والذكريات.
كان لا مفر للغرباء - و الجثث حينما تبدو - من التظاهر بالإحساس بالحرج ، تعبر عنه بشيء من الحزن العارض ، وبتلوين الملامح بعلامات الأسى ؛ تزفها إلى الآذان بعبارات الاعتذار المحفوظة ، ليرتفع الحرج ؛ وتعود كل الأمور إلى مواضعها ، وذلك ما فعله الطبيب والممرضتان وهم يتفقدون أشلاء البشر والحيوانات المتآلفة في وئام غريب.في اليوم الموالي لانشطار الطيب .
يدير الطيب وجهه ؛ بصعوبة باتجاه الباب ،يفتح جفنيه الواهنين بصعوبة.
لم تتوسع ثقوب الباب ، ولم تسمح للضوء بالمرور ، إلا بالقدر الذي كانت عليه أيام الجريمة ، ربما لأن الجريمة تواصلت على أيدي الأهل بصور أبشع ، الأهل الذين  أواهم الجبل وابتلع القنابل الحارقة في جوفه ليحميهم ، يتفرجون على الحرائق تزرع الموت في حناياه ، ويجدون الفرجة ممتعة ،بل يشعرون ببعض الدفء ، دفء الدماء النازفة تروي عطش التربة، لم يعد الجبل بالنسبة إليهم جبلا ، تغير العهد صار القاتل للسلف صديقا للخلف ، ومالت الأقنعة وصار المنحاز للجبل نذلا ، و الغريب أكثر تحضرا يبقي الجسد و يجتث الروح. لا معنى للنور في الخارج.
حاول الطيب أن يطرد الصراع من باطنه، أن يضع نهاية للحرب التي استمرت خمسين عاما ؛ وأن يعيش لحظة النصر، لحظة الوداع بكل ما بقي لديه من إحساس.
- هذيان الروح هذا أم استراحة الروح؟؟.
أخذت مساقط النور تنحرف نحو اليمين معلنة حلول وقت الزوال، وتمنى الطيب لو استطاع الوقوف لآخر مرة ، لو استطاع أن يدفع الباب ،ويخرج لتوديع التربة النقية الطاهرة ، بألوانها البديعة ، يكحل عينيه المنهكتين بألوان آكامها الرمادية والشهباء التي شكلت من ندبات الحرائق خانات على جنباتها ،تشقها أخاديد تصدعات الفجيعة، وجريان الدمع المسكوب على الرمم ، ويودع لآخر مرة القلة الباقية من ساكنيها الذين رفضوا الرحيل رغم الموت والنار.
كان الطيب ممددا ينزع، حين راح العالم ينسحب شيئا فشيئا ؛ تغمره موجات من الضوء ، تنفتل حبالا لولبية ؛ تصل جسده بالسماء ، ترفعه على مهل و الموجودات من حوله تصغر مبتعدة ، وأعمدة الضوء تكبر ؛ وتتسع أقطارها ؛ وتصرط جسده النحيل في صمت مهيب ؛ وأشجار الزيتون الهرمة وجاراتها تخنقن فحيح بكائهن وفاء لطبعهن ، تختزن دموعهن حتى يحين أوان الموسم الذي قد يأتي ؛ وتصير زيتا مباركا عونا للصابرين.
في اليوم الموالي حمل جثمانه على الباب الشهيد؛  فعانق كل منهما الآخر العناق الأخير؛ وبعد الدفن أعيد تثبيت الباب في مكانه ؛ ليواصل صريره الحزين ؛ يشرب حبال الضوء ويتابع شهادته على زيف التاريخ، وساما يشهد للمرحوم معلقا على صدر الجبل.



الضيف حمراوي 14/07/2007


ماذا يعني أن تقرأ؟

ماذا يعني أن تقرأ؟
 :"Emile Faguet " يقول إميل فاجي
التعليم نوعان : الأول هو ذلك الذي نتلقاه في الثانوية، والثاني هو ذلك الذي يمنحه المرء
. لنفسه ،الأول ضروري ، ولكن الثاني وحده هو الذي يدوم
أن تقرأ هو تكتسب سلاحا فعالا لا مثيل له ، تدافع به عن نفسك ضد كل المخاطر كيفما كانت ، مادية أو معنوية ، حضارية وعقائدية ، و كيفما جاءت بغتة ، أم متربصة ، متسكعة متباطئة ، فرادى أم متتابعة متلاحمة ، طبيعة كالكوارث والمجاعات والآفات المهلكة ، أو بفعل الخصوم والحساد والطامعين والأعداء المتربصين ،من الأهل والأقارب وذوي الأرحام وأبناء الجنس والعقيدة ،المشاركين في الماضي والمصير ، أم من الأغراب المخالفين في الدم والمعتقد والمسالك والغايات.
أن تقرأ يعني أن تكون أنت ، تستعصي عن الذوبان في غيرك ، وسط تنوع غير متناه، تتفاعل بثقة ، ومن خلاله ، مع عقول كبيرة مختلفة المشارب،متعددة الرؤى ،شغلت عصورا ممتدة عبر الأمكنة والأزمنة ، وغطت امتداد الحضارات الإنسانية ، وأعطت للكون معاني ومفاهيم روحية وعقلية ، تستحيل الحياة بدونهامثل : الحق ، والحرية ،والجمال، والحب ، والعدل.وهي قيم ومفاهيم لا تورث كما أنهاعرضة للتشويه والتحريف ، ووعاؤها الحامي لها هي مؤلفات العباد ، والحكماء،والمفكرين، والعظماء المتدبرين من بناة التاريخ وصناع الحضارات المتمايزة عبر القرون ،المباهية بهوياتها المتفردة والتي يستحيل الدخول إلى صروحها إلا بقراءة الكتب ،والقراءة اكتشاف و إبداع فكل كتاب من كتب هؤلاء قرأتَه واستوعبْتَ ما فيه ،كتاب ألفته.
أن تقرأ ، يعني أن تركب سفنا تسافر بك عبر الزمن ، وخلال العصور ، فتعود إلى بدايات التاريخ ، و ترافق تشكل الكون ، ورحلة القارات ، وبداية الحياة في أعماق البحار و المحيطات ، وبراكين النار، وارتطام الكويكبات ، وتناطح الشهب ، وتهاوي المذنبات ، ،تقصف وجه الأرض فتهلك مخلوقات ،كالدينصورات ، وتظهر أخرى متنوعة :طيورا ، وزواحف ، وذوات القوائم ،وسابحات...
أن تقرأ يعنى أن ترحل في المكان ، ترافق المستكشفين إلى أدغال أوروبا ، و المتسلقين إلى قمم الهملاياوالتبت، وأغوار الهادي ، والهندي والأطلسي ، وتجوب القطبين ،و أن تنفذ من الجاذبية، وتخترق الغلاف الجوي اللازوردي ، وتقتحم الأشعة المهلكة ، متحديا رهبة الروح ،وعجزك الجسدي ، ترصد النجوم والمجرات ، وتطوف بالكواكب وهي تضرب في رعاية خالقهاعبر المدارات ، يؤدي فناء بعضها إلى ميلاد أخرى ، تتخذا لها في فضاء الله الفسيح سنناومسارات.
أن تقرأ يعني أنك قررت الخروج من المملكة الحيوانية الضيقة، الفقيرة، القاحلة التي تسيج تخومها الحاجات البيولوجية التي يتساوى فيها البشر مع البكتريا ، والدود ، والبهائم : أكل وطرح، ومسكن ، وتكاثر ثم العودة إلى تراب ، والولوج إلى فضاء المملكةالإنسانية الواسع الذي لا تحده حدود معلومة ، ولا نهايات مرسومة ، فتستحق مباركة الله لسعيك قولا كان أو عملا ، وتستحق أن تضع لك الملائكة أجنحتها رضا بما تصنع ،فترتفع بما حملت من علم على مالك المال المهدد في كل حين بالزوال. فالعلم يحمي الإنسان والإنسان يحمي المال
إن الذي يكتفي بما يتلقاه من الثانوية أو الجامعة ، أو بما يفرضه عليه المنهاج والبرنامج من علم ، يكون خطره على نفسه ؛ وعلى المجتمع أفتك؛ وأكثر ضررا؛ وتدميرا لنفسه؛ ومجتمعه؛ من الأمي الذي يعيش على الفترة ، وتعرف هذه الفئة بأشباه المثقفين من الناس المتعلمين ، و أصحاب الاختصاص في العلوم الدقيقة أو التطبيقية بغض النظر عن مجالها، وفي العلوم الإنسانية المتنوعة، وخطر هذه الفئة يكمن في غرورها ، ونظرها إلى الشهادات العلمية التي تحملها كأدلة؛ تبرر لها ما تفعل؛ أو تقول ، رغم كون هذه الشهادات ما هي في الحقيقة إلا أدلة على أن حامليها قد حازوا مفاتيح القراءةوالتعلم ،لا العلم في ذاته ، لأن العلم يغترف منه ولا يحاط به ، غافلين أو متغافلين عن حقيقة أن المفاتيح التي لا تستعمل ستصدأ حتما حين تهمل و لا تستغل يوميا ،لفتح أبواب المعرفة الإنسانية المغلقة ،المتنوعة التخصصات ، واللغات ، والثقافات ؛ وتعجزعن أداء وظائفها ،فتصبح خردة لا خير فيها قد تصيب من لامسته بداء التيتانوس المميت .
شعب لا يقرأ شعب لا دين له ،ولا هوية ، لا ماضي له ولا مستقبلا ، فقير مهما حوت أوطانه من ثروات ، ومعادن وخيرات ، شعب عاجز؛ هين ؛ ضعيف مهما اشترى من أسلحة وعتاد وذخائر , و بنى من قلاع وأقام من تحصينات.
شعب لا يقرأ في حياته اليومية العادية ، خارج المؤسسات التعليمية المتخصصة ،ويقنع متعلموه بما حصلوه بين جدران أقسامها وقاعاتها، نتيجة لامتثالهم لمقررات وشروط نيل الشهادة ، لايتجاوزونه ، شعب مقلد ، مجتر، مريض: أرواحا وأجسادا ، لا دولة له مهما أقام من حدود،و صبغ من أعلام ، وحبر من معاهدات ، وسن من قوانين وتشريعات، ولا عقيدة ، ولا هوية له ، مهما أقام من معابد ، و أعلى من مساجد وكنائس وبيع وزوايا ومزارات، ومعاهد ومستشفيات ، ومهما اتسعت رقعة أراضيه فهي أعجز من أن تغنيه ، و أضيق من أن تحتويه أو تحميه.
هذه بعض من الحقائق الت يقررها الواقع في القرون الأربعة الأخيرة ، حيث اغتنت وعزت أمم فقيرة قي أوطان قاحلة جعلت العلم ،غايتها والقراءة واجبها و هوايتها، لا تحيد عنها إلا إليها، فاتحدت تشعوبها وسادها الأمن والأمان، وغادرها الجهل و الجهال ،وانبسطت العدالة والحرية والمساواة في ربوعها فراشا مخمليا مزركشا للجميع ، واطلعت على الكثير من أسرار الكون ، طبيعة وبشر ا وحضارات ، فطوعت الكل ودجنته لمصالحها، ونوعت صناعاتها ، ,وأبدعت في مخترعاتها ، بينما أضرب العرب والمسلمون عن القراءة دهورا إضراب أبي الهول عن الكلام ، رغم أنهم أول من أمر بها حتى غدا معدل ما يقرأه العربي خلال السنة لا يتجاوز ربع صفحة ، في حين يتجاوز ما يقرأه اليهودي في السنة خمسة وأربعين كتابا ،وأدنى ما يقرأه الفرد الأوروبي حسب بعض الإحصائيات أحد عشر كتابا ، أما من حيث صناعة الكتاب ورواجه فإن ما تطبعه أسبانيا وحدها؛ في السنة الواحدة ؛ ما أنتجه وطبعه العرب من كتب منذ العصر العباسي إلى الآن .
إن إجمالي ما تنتجه الدول العربية من الكتب يساوي 1.1 % من الإنتاج العالمي، بينما يشكل العرب وحدهم دون عد المسلمين معهم من حيث العدد 5 %سكان العالم تقريبا، فلا تستغربوا من مقدار ما بلغناه – نحن العرب - من تخلف ودروشة، وفوضى، وأمراض سياسية،واجتماعية، وعقائدية، ,وأخلاقية ، ونفسية ، واستهتار بقيمنا وقيم غيرنا .فهنا وأصبحنا نبع الإرهاب، و مصدر الهجرة غير الشرعية، ومثالا في فساد الحكم، وتخلف الرعية وتوحشها، نعيش بالغش وعلى الغش وللغش، نَسرق أو نُسرَق ، نَكذب أو يُكذَب علينا ، نضلل أو نُضَلَل ، نهين أو نهان ، نرى ولاة أمرنا طغاة.... ، ويرانا ولاة أمرنا ......و جرذانا وحشرات ، وكلنا مجمعون - حكاما ومحكومين- ، على رأي واحد هو مهاجمة كل من ينبهنا أو يواجهنا بحقيقتنا البشعة والفتك به ، وفينا من العناد والخوار مايفوق ألف مرة عناد الثيران وخوارها.
أمة لا تقرأ؛ هي آخر الأمم مهما كان أصلها وفصلها، ووهي أضعف الأمم مهاما أبدت من عنتريات، وهي أكذب الأمم على نفسها وعلى غيرها ، لأنها تتحدث وتحدث عن أشياء لا تعلمها ،أو في أحسن الأحوال سمعت بها ولم تتحقق من وجودها ناهيك عن صحتها .
فهل يجد العاقل بعد هذا مبررا لشعوره بالحاجة إلى من يحثه على القراءة !!؟؟

الضيف حمراوي 14/03/2011




القول ما قالت حذام

  قا ل ، وروي ، والقول ما قالت حذام مع افتراض صدق النية، وسلامة الطوية ، فإن البصر بطبيعته كثيرا ما يخدع ، فيوقع الإدراك في الخطأ، فينقل ال...