الثلاثاء، 1 نوفمبر 2011

أنيـن السنيــن


أنــــــــين الســـــــــنين - قصة قصيرة

          سمعت ؛ وأنا أهم بمد الخطو كي اقفز إلى الناحية الأخرى من الواد أنين روح في حالة النزع ، كان الأنين ينطلق من المقطع ، من وسط مياه راكدة ماجنة ؛ صفراء آسنة ، اختلط فيها روث البهائم ببولها ؛ و بما تلفظه مصارف المياه القذرة ، ومن وسط هذه البقعة المسكونة بعالم الفساد، وأرواح الشياطين، والكائنات الملعونة والمسحورة، كان يأتي الأنين آي .آي. آي.
          كان نعيق البوم ، ونهيق الحمير ، وعواء الذئاب المتقطع ، و ضباح الثعالب المتقاطعة ، تشكل خلفية للأنين الممزوج بحشرجة تنبيء بألم حبيس ،تحت سماء موشحة بلون رمادي، يمتد أساها ذاهبا في آفاق الفضاء.
          كان الأنين يخرج من الرمل تحت الماء أمامي ، من وسط بركة الماء الآسن الماجن ، بصقت ، واستعذت بالله ، وركزت ؛ وقد تملكتني الدهشة الممزوجة بالخوف و الرهبة ،ولأن قناعتي أن البشر خطرهم في غرائزهم  وجوارحهم وليس في أرواحهم ، تمالكت نفسي ، وتحكمت في حواسي وروضت قدرتي على الانتباه والإدراك ؛ وتقدمت أكثر ، وأنصت السمع ؛ فتحققت من منبع الصوت ،كان الصوت لشيخ هرم ؛  جاوز السبعين ؛ يعاني سكرات النزع الأخير.
           أحسست بهزة في أعصابي كادت تدفعني للفرار،  لكني غالبتها ؛ وقررت أن أبقى ؛ بل لن اذهب حتى أستجلي حقيقة الأمر.

قلت من؟ أين أنتَ؟ ما بكَ ؟ من أين جئتَ؟ ومن جاء بك؟ .
كانت فرائصي ترقص على وقع الرهبة.. كنت مضطربا غير قادر على الجزم بأنني سأبقى إلى نهاية المقابلة.
قال اسمي تعرفه، فالمقطع يحمل اسمي وفيه ؛ غرزت روحي.وكان من المفروض أن استعمله كبقية المخلوقات ؛ فأمر وأعبر وأقطع، ولكنني صرت أنا المعبر؛  وأنا الممر والمقطع.
قلت: لم افهم ؟ أأنت ؛ أنت القايد؟
قال: نعم                                          
- ماذا كنت تقود ؟
قال : كنت أقود جيوش الخيانة ، كنت رمزها ؛ كنت أنا هي ، خائن لدينه ، ووطنه ، وشعبه ، خادم لعدوه ، ظالم لنفسه ، ولأهله قدت أعدائي ؛ وأعداء شعبي ضدي ،وضد عشيرتي ، فعلت بديني وملتي ما طلبه مني أعدائي، بل زدت حتى ارتعب من شري الشر، طمست عيون الماء الزلال ، عيون الحب والأمل ، وأقمت عيون يشرب منها الحزن و اليأس، واقتلعت جذور الأمن؛  وبذرت بذور الرعب والبأس واليأس...
قلت ما بك ؟ وماذا تفعل هنا؟
قال: لقد أطلق علي يحي النار قبل قرن ، فقتلت في أسوء لحظة ، في أسوء موضع ، لأسوء الأفعال .
قاتلي جزء مني ، اسمه يحي بن سعيد ، رجل كامل العدة ، صبور عند الشدة ، أسلمت له الطير المحلقات ، وذلت لهمته المسالك والممرات ، فطوى في رحلاته المسافات . كان يحي قد ولد ليحيا ، وكنت وعدت العدو المستعمر وعاهدته على قتل كل من يحب ألحياة أو يحب أن يحي أو يحيا، فبدأت بالإساءة إليه ، وضيقت عليه ، وأغريت به أسافل الناس من عبيدي ، وأغريت كل زنيم ،وكل نذل وسفيه، ومددت يدي وبسطتها كعهدي على كل ما كان عزيزا وأثيرا لديه ، وآذيته في عرضه؛  وصادرت منه أرضه ،وأفسدت عليه دينه وشغلته عن سننه وفرضه.
وفي مساء أحد الأيام، وفي خامس عام بعد تمام القرن ، حين نضجت الشمس ،وتجرأ عليها الجميع ، وخرجت الشياطين من قماقمها، لتعبث بأرواح الضعفاء والملعونين،والمغضوب عليهم والضالين ،و الفسقة والمجانين؛ خرجت من مكتب الحاكم، بعد أن سلمته ما تجمع لدي من أخبار الناس ؛ وما صار له علي من دين، أريد الرجوع إلى مخفري ووصلت إلى هذا المقطع.
سكت برهة ...
          خرج يحي من مخبئه؛  وبيده بندقيته ؛ وصب في جوفي ما كان في جوفها ، لم يسمح لي بالتوسل؛  أو التضرع إليه ، لم يمنحني شرف مخاطبته ، كان صافي الذهن قد حدد هدفه ، كان يريد أن يجمع كل النجاسة ، كل الفساد المبعثر في الدوار ، وفي العرش، وفي زوايا الناحية في هذا الموضع ؛ هنا حيث أنام فسقطت تحت بطن البغل.
"لم يكن يحي يثأر، كان يغسل ، كان يطهر".
    وجاء الحاكم والحاشية والأهل ، وحملوا الجثة دون أن يلتفتوا نحوي؛  أو يفكروا في وجودي ، ووضع ميزان العدل ، فأحكم وثاقي في موضع خروجي ؛ ولم يسمح بعروجي، ومنذئذ وأنا أتمنى أن أموت.
الموت هو رضا الله على عبده ؛ واستعادته إليه ؛ أما أنا فْإني روح مهملة، عمياء مشلولة ؛ مشدودة بشللها إلى مكان سقوطها وانفصالها عن جثتها التي التقطت وسترت، أما أنا فمازلت هنا ؛ في العراء،عرفت جميع أنواع الصقيع ، عرفت من الآلام آلاما ... يفقدها الوصف ماهيتها، عرفت جميع أنواع الاحتراق ؛  حتى صرت أنا النار وأنا الوقود ومازلت هنا، لماذا أنا هنا ؟ ماذا انتظر؟ و إلى متى؟.
قرن ويزيد من الأنين ، أئن على أمل أن أموت، لا أحد يعرف مدى قيمة الموت،إلا من كان مثلي مات فيه الجسد وبقيت الروح مربوطة إلى المكان الذي سقطت فيه الجثة.
          منذ قرن ويزيد ، وأنا هنا حاوية لبصاق اللاعنين واللاعنات ، قد يفعلون ذلك دون قصد ، ولكن وجودي في المقطع حيث تقف البهائم؛  تشرب ؛ وتبول؛  ثم تلقي بفضلاتها فوقي ، يجعل الناس يعتقدون أن الشياطين والجن تجتمع هنا عصر كل يوم ، وفجر كل صباح؛  تجلس فوق الحجارة الناتئة؛  أوتتظلل بظلها . يتربصون بالمارة ، ولذلك تجد الناس يبصقون؛  ثم يعوذون بالله من الشياطين محاولين الابتعاد بأقصى سرعة، حتى سرت أنا هو مجتمع الشياطين ؛ والجن؛  والنجاسة ، ولم يبق من يقبل مجاورتي إلا الثعابين و الضفادع التي تقتدي بي ، حين أبدا في الأنين والنشيج ؛ فتشرع في النقيق ، وكثيرا ما تهتدي الثعابين إليها فتبتلعها أمامي وأحيانا مستريحة فوقي؛  متخذة مني فراشا أو متظللة بي ، فتنفذ أرواح الضفادع وتموت وتنفصل أرواحها عن أجسادها وترحل أمنة نحو السماء سعيدة راضية ، وأتمنى لو يؤذن لي فأرافقها ، وأحاول أن أهز بعض أطرافي ؛ فأجدني مثقلة بأوتاد يقال عنها أعمالي مركوزة في أعماق الأرض.
          منذ قرن ويزيد ؛ و الواد يحفر ؛  ويحفر ،و يغوص في الأرض ؛ فيصير أكثر غورا ، ألا انه لم يستطع أن يكشف إلا عن جزء بسيط من هذه الأوتاد اللعينة التي تلصقني بالأرض؛  وفي أنجس بقعة منها.
كثيرا ما مر بي أبنائي ؛ ومن بعدهم أحفادي؛  وأبناء أحفادي الذين من أجلهم ربطت إلى هذه الأوتاد اللعينة دون أن يلتفت أحد منهم نحوي؛  أو يجلس بجانبي ؛ يحدثني، يزيل وحشتي ؛  أو ينظف مجلسي بل يفعلون تماما كالذين أجرمت في حقهم ؛ واكتسبوا حق لعني ولعن اسمي ،وتاريخي وأعمالي ، وورثوا هذا الحق إلى أبنائهم وأحفادهم من بعدهم.
           والمأساة ؛ هي أنني تركت من بعدي ورثة ؛ أخذوا ما جمعته من متاع الدنيا، ووزعوا أكثره في وجه رياح الجنوب الحارقة ؛ وساهموا في البصق على وجهي ؛  و في لعني . وشاركت بهائمهم بهائم غيرهم في ذلك ....
         ما يزيد عن مائة سنة ؛ وأنا جالسة هنا ؛ في قلب الطريق ؛ يدوسني الرائح والغادي ، الناطق والبهيمة ؛ ولم أسمع يوما من دعا لي برحمة، أو ذكرني بغير الذم ، يل الكل مجمع على لعني والاستعاذة بالله مني  ؛ وهم يبتعدون ، وهذا ما زاد في ألمي، كنت أقبَلُ ذلك من الجيل الأول الذي عاشرته على شدة إيذائه، على أمل ألا تفعل الأجيال اللاحقة ذلك  ، لأننا لم نلتق ، ولم يصبها أذاي ، فتخف أوتادي ؛ أو تفك قيودي، غير أن كل جيل يأتي ؛  يلعنني أكثر من سابقه، لم أدر إن كان الله يسمع منهم ذلك ويقبله ، ولكنني أعرف أن ما ارتكبته من شرور يكفي كي أترك مشلولة هنا ؛ في هذا المقطع اللعين إلى الأبد.


الضيف حمراوي 27/02/2008


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  .الدائرة جلست في الساحة العمومية؛ على كرسي من كراسيها الخشبية المهترئة؛ أحادث نفسي وتحادثني، ماذا حدث حتى تكاثرت هذه الوجوه المتعبة الحزين...