السبت، 22 أكتوبر 2011

بحيـرة البـجع

بحيرة البجع -قصة قصيرة.




في لحظة تحرر قلما يجود الزمان بمثلها ، انطلق الخيال يتخطى عتبات المدى ، وأمعن في اندفاعه حتى ذاب في خيوط الفجر ؛ ومازج زبد البحار؛  وتشتت صدى متسللا ؛ هاربا ؛ عبر المنعرجات  والثنايا معاندا ؛ متحديا الموانع و المصدات ، ورأيتني أمد يداي أمامي؛  أريد اللحاق بسرب هذه الطيور الصادحات العابرات، طيور البجع المتتابعات المسافرات ، العائدات إلي الشمال ،... ليتني أتمكن ؛ ليتني أتخلص من رائحة هذا السمك النتن نتانة البشر، وكلما تردد صوت خفر السواحل ، ازداد ثقل السمك ، وازددت اختناقا ؛ و كان لابد من أن أبذل مزيدا من الجهد ، لابد أن الحق بالسرب لابد.
واندفعت مصارعا التعب ، معاندا العياء وشح النفس، معاندا ؛ رغم انسداد الحلق وانسحاق القفص.
قالت إحدى البجعات، وكانت منذ مدة تدير رأسها نحوي بشيء من القلق فيه سمات خوف، ثم تنحرف قليلا مبتعدة، فأنحرف بانحرافها كأنها جزء من روحي ، قالت: أراك غريبا عنا تشاركنا الرحلة وما ألفنا مثلك يطير؟
قلت : ضاق بي أهل بلدي فضقت بهم ، وأعدموني فحرروني،  فصار بمقدوري الطيران ، وأملي كل أملي أن تقبلنني بينكن أيتها البجعات.
نظرت نحوي، ثم مدت عنقها مستقيما وأمعنت في الطيران، وأرسلت صياحا فيه أمل ا تدق به باب الغيب كأنها تطمع أن تستطلع سر مستقبل ممتد أمامها.
صرخت متوسلا أيتها البجعات حنانيكن ؛ أنا متعب منهك ، أنا متعب منهك.
قالت التي في رأس السرب تقوده: قاوم ، قاوم ، تشجع ، اشرب ألمك ؛ ليس لك غيره ، لابد أن نعبر، لابد أن نعبر، تعلم من البجع الطيران لأبعد مدى ، وتعلم أن الصبر والصمت يساعدان على ذلك.
ومع كل ذلك فلا تعتقدن أنك بدخولك بيننا قد أمنت النجاة، فشر البشر عام ومنتشر، ونحن متهمات بتهريب أفتك و أخطر الأوبئة والآفات، فاصمت إذ قد نتعرض لإطلاق النار في أي لحظة.
وبمجرد أن ذكرت قائدة البجع لفظ البشر؛  ازدادت رائحة السمك النتنة، ومددت بصري تحتي فرأيت البحر ينحسر إلى الجنوب فقلت لعل الرائحة تتصاعد من سواحله.
وقبل آن يرتد بصري ؛ دوى صوت البنادق ، فصرخت البجعات صرخات ملؤها الرعب واليأس،  وصرخت مثلها مرعوبا ، ورحنا نطلب النجاة بكل السبل،وامتد النواح يملأ الفضاء، ينعى قائدة السرب وهي تهوي نحو الجنوب ،  تهوي وتهوي مندفعة، تمزق الجو. ولم تعد بجعة ،صارت مذنبا ينفث لسان نار يمتد مسافات شاسعة وراءه ، راحت تهوي مندفعة إلى قلب المدينة ، بالضبط إلى قلب المدينة التي انبعث منها سديم  رهيب ، نتيجة الارتطام ،، علا  فاتشحت الشمس بوشاح الحداد ،ثم هوى فإذا المدينة خلاء ؛ قد تفجرت به عيون من ماء صاف؛  تندفع  نحو السماء في هيئة شلالات معكوسة ، وتحولت المدينة إلى بحيرة تهاوى نحوها البجع من كل صوب. وراح يغني :
- لا للشر لا للبشر؛  بالباء ؛ وبدون باء.


الضيف حمراوي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القول ما قالت حذام

  قا ل ، وروي ، والقول ما قالت حذام مع افتراض صدق النية، وسلامة الطوية ، فإن البصر بطبيعته كثيرا ما يخدع ، فيوقع الإدراك في الخطأ، فينقل ال...