النزعة الإنسانية L'Humanisme -
اتجاه فكري وفلسفي وأدبي وفني "
يضع الانسان والقيم الانسانية فوق كل القيم الأخرى" ناتج عن تطور الفكر
الغربي الذي لاحت تباشيره مع البدايات
الأولى لعصر النهضة بين أحضان المذهب الكلاسيكي ،و" يسعى المذهب الإنساني خاصة إلى جعل
الانسان أكثر إنسانية(...)؛ إنه يطلب من الإنسان أن يطور في نفس الوقت الطاقات
الكامنة فيه، وقدراته على الإبداع، وحياة العقل ، وان يعمل على خلق أدوات محررة من
قوى العالم الطبيعي ، وبهذا المعنى، لا ينفصل المذهب الإنساني عن الحضارة أو
الثقافة"[1].
و" عظمة الإنسان في عزمه على تجاوز
وضعه"[2]
.تطورت النزعة الإنسانية واتضحت وتحددت أطرها كتيار متميز مع ازدهار المذهب الرومانسي
الذي تبنى معظم مبادئها واستمرت تغتني في كل عصر بقيم جديدة ؛ وتلقى قبولا من طرف الأدباء والمفكرين والعامة ، وتنعكس في المذاهب المستجدة التالية في مختلف الأقطار الأوروبية.
وكانت إيطاليا بفضل أدبائها ؛ في مقدمتهم
بترارك ( 1304م- 1373م) ثم بوكاشيو (1313-1375م). في طليعة الدول التي ظهرت بها الإرهاصات
الأولى للنزعة الإنسانية من خلال محاربة بقايا الظلامية ومختلف مظاهر التخلف التي كانت سائدة
في العصور الوسطى في معظم أصقاع أروبا وأقطارها المترامية . فقد آمن بترارك بالثقة في الإنسان وبقدرته على تجاوز
"سم العبودية القديم" والمتغلغل
في وضعه الراهن إلى وضع أفضل وأحسن باستمرار.
كما آمن بقدرة العقل الإنساني على تجاوز المتناقضات القائمة والمستجدة وما قد يبدو أنه تعارض بين السماوي والأرضي وكل
هذا يظهر ثقته في الإنسان.
وتجذرت
هذه المبادئ شيئا فشيئا بين جدران الجامعات والأكاديميات المنتشرة بالمدن الإيطالية وعلى رأسها
"فلورنسا" بفضل تعزيز علاقة الفكر والثقافة الإيطالية بالفكر اليوناني
والروماني القديم الذي شكل عظمة الإمبراطورية روما القديمة التي كانت تبسط سلطانها
على كامل سواحل البحر المتوسط. و وازدادت مصداقية هذا التيار عند الغربيين بعد
سقوط القسطنطينية آخر معاقل روما البيزنطية "الشرقية" على يد الأتراك
(1453م).
فر علماء القسطنطينية ورهبانها إلى إيطاليا
حاملين معهم مصادر التراث الإغريقي اليوناني الروماني القديم، كتبا ومخطوطات، وقيما
،وعادات ومنها راحت تنتشر في بقية الأقطار الغربية. وكانت هولندا ثاني بلد برزت فيه
النزعة الإنسانية بفضل بفضل فنانيها وعلى رأسهم الرسام إراسم (1467-1536م) ،
يعتبر إراسم واحدا من أهم الذين مثلوا النزعة الإنسانية ،وعمل
على تحطيم طابوهات الفكر الكنسي المتسلط في الغرب المسنود بتلسط الإقطاع واستبداد الأنظمة.
وجاهر بقناعاته التي جسدها في لوحاته والتي يرى من خلالها أن مكانة الإنسان لا تقل حرمة
وقداسة عن معبودات الكنيسة والاديان ومقدساتها.
وأن الإساءة إليه والحط من شأنه جريمة في عنق المسيء بغض النظر عن مكانته.
أثمرت جهود الإنسانيين دعوة صريحة واضحة إلى البحث عن تعريف جديد وتصور جديد للإنسان ، ولقدراته
ولدوره في الحياة كفرد ،و كيان قائم بذاته، حر له حرمته ، وهذا الإدراك حتم على الأدباء مواجهة المجتمع والسلطة والكنيسة بالنقد
والتوجيه والحث على ضرورة احترام الفرد واستقلاله و تعليمه وتثقيفه وتكوينه وتدريبه ، وانعكس
ذلك في مناهج التربية والتعليم جون جاك روسو وفي مختلف الفنون الأدبية ،وفي فن الرسم
والنحت والعمارة ، وقد ساعد تطور العلوم وتقنياتها ومناهجها وعامل التأثير والتأثر بينها
وبين مختلف الفنون الأخرى على تشكيل تصور جديد
للكون وبنيته وتنوع عناصره ومن بينها الإنسان.
على أساس محوري هو اعتبار المعرفة هي
جوهر الوجود الإنساني، وكل حرمان للفرد منها ؛ حرمان له من حقه في الوجود، وتعد على
الإنسانية برمتها.
وقد استفاد الإنسانيون أو 'الإنسيون'
من التقنيات العلمية التي انتجتها الثورة الصناعية ، ولعبت دورا كبيرا جدا في بلورة وتطوير النزعة الانسانية. فالنهضة الصناعية
وعلى رأسها الطباعة (غوتنبرغ ، 1468م) ساهمت بقسط كبير في ترسيخ وتوسيع هذا التيار في المجالات الفكرية الفلسفية والأدبية
الفنية ؛ إذ سمحت الطباعة بانتشار الكتب والمكتبات والصحف والمجلات والدوريات مما سهل
انتشار الأفكار وتلاقحها وتقريب بعضها من بعض ، واكتشف الناس –خاصة في المجتمعات الأوربية-
أن ما يجمع البشر أكثر مما يفرقهم رغم اختلاف لغاتهم وثقافاتهم ومذاهبهم وأعراقهم.
كما لعبت الطباعة دورا كبيرا في بعث التراث
اليوناني الإغريقي والإنساني؛ وفي إنقاذ ملايير
المخطوطات بمختلف اللغات ؛ ومن مختلف الحضارات
، حين ساعدت على طباعتها ونشرها ، وسمحت بالاطلاع عليها و بتحقيقها والاستفادة
منها ، وفي مقدمة التراث الإنساني القديم الذي
استحوذ على اهتمام الأوربيين ؛ كان التراث والفكر والفن اليوناني الإغريقي ح
، باعتباره يمثل عصارة ما أنتجه أسلافهم ، وقد كان لسقوط القسطنطينية ، عاصمة البيزنطيين
–روما الشرقية- بيد الأتراك سنة 1453م وفرار العلماء البيزنطيين منها نحو إيطاليا وحاضرتها الكبرى آنذاك فينسيا
، و نحو بعض العواصم الغربية الأخرى مثل النمسا ؛جالبين معهم الكتب والمخطوطات القديمة أثره في ظهور وتأطير تيار النزعة الإنسانية ، إذ
اكتشف الإيطاليون ، ثم بقية الطبقة المثقفة في الغرب بعد ذلك ، أن ما كتبه اليونانيون والإغريق
أرقي بكثير من فكر العصور الوسطى ، وأن اهتمام اليونان بالإنسان وبمكانته في الكون
متقدم على تصور الكنيسة ورجال الفكر في العصور الوسطى ، وأن من مصلحة الإنسانية إعادة قراءة التراث اليوناني الإغريقي بكل مكوناته
الفلسفية والأدبية والفنية والتاريخية والعلمية
منبهرين بمؤلفات ارسطو ، وافلاطون ، وهوراس وبلاتون، ويوربيدس.
إذن النزعة الإنسانية هي حفنة من بذور الخير؛ سلمت من طاحونة الشر والتوحش؛
كانت مبعثرة في مختلف حواضر العالم القديم؛ حملتها رياح التاريخ وتياراته المتلاطمة
معجونة بآلام البشر عبر مخلفات الحضارة الإغريقية الرومانية ، وبعض الجوانب المضيئة
في الديانات المختلفة.
واستمرت الحياة كامنة بها حتى وجدت التربة الصالحة للإنتاش ؛ في عصر التنوير الأوروبي؛ بفضل ما هيئته لها قلة
من الرجال الذين غلبت على نفوسهم نوازع التحرر؛ والخير؛ والحب والجمال ؛ على نوازع
الاستعباد والشر والكراهية والقبح ؛ ثم جاء عصر النهضة الأوربية. فأغراها نوره فأورقت
وأزهرت فأعجبت الناظرين.
وكان من بين رواد الدعوة إلى النزعة الإنسانية
كتيار له أسس فكرية وجمالية وسلوكية منسجمة
، الأديب الفرنسي رونسار (1524-1585م) الذي لعبت شهرته دورا بارزا في التبشير بالمبادئ
الأولى المؤسسة للنزعة الإنسانية العالمية، وغدت
العاصمة باريس مركز إشعاع خلال الثلث الأخير من القرن السادس عشر.
وساعدت الثورة الصناعية ومن أهم مخترعاتها القطار البخاري (استفنسون
1814م). على مد خطوط السكك الحديدية واستغلال
الطاقة البخارية في تسيير القطارات بين مختلف البلدات و المدن والعواصم الأوربية ،
وتم بفضلها تقريب المسافات و تبادل ليس السلع والمنتوجات فقط ، ولكن الإنتاج الفكري
والأدبي والفني أيضا ؛ إلى جانب تنشيط السياحة
، والملتقيات العلمية ،والمهرجات الفنية ،والصالونات
والنوادي الأدبية.
ثم جاء عصر النهضة الذي شكل نقطة انعطاف
كبرى في تاريخ أروبا ، فوطد العلاقة بين أقطارها المهمة المؤثرة في العالم في تلك الفترة
: إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وانجلترا
وهولندا وألمانيا وبولونيا.
وكانت أولى جهود الأدباء والمفكرين من
دعاة النزعة الإنسانية تتمثل في العمل على
التصدي للفكر الذي كان سائدا في القرون الوسطى
وقطع كل صلة للمجتمع به، وهو الفكر الكنسي
واللاهوتي الذي يجعل مصير الإنسان خارج إرادته فهو مقدر ومقرر بيد الألهة سلفا ،وما
على الإنسان إلا أن يكابد ما قدر له.
أسس النزعة الانسانية.
رغم الاختلافات الكبيرة التي نتجت
عن تطور الأفكار عبر ما يقارب 27 قرنا ، ورغم الاختلافات الطفيفة بين الأقطاب المؤسسة
لتيار النزعة الانسانية الحديثة والمعاصرة إلا أن جميعهم يستند على جملة الحقائق يمكن إجمالها في:-
-1الإنسان محور الكون ببعديه : طبيعيته وتميزه
الطبيعية : الأنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة ومن
الكون لا تحتوي طبيعته وتكوينه على اي ميزة
مفارقة للطبيعة او فوق طبيعية وكل مدركاته هي
محصلة تراكم تجاربه وخبراته المشتركة
عبر الزمن مهما كانت او اختلفت مظاهر وكيفيات تجسدها وفقا لما تفتضيه الظروف
والامكنة والازمنة والاجيال وحاجاتها ,ومهما اختلفت التسميات او المصطلحات التي تسمى
بها.
التميز: فالإنسان رغم طبيعته الحيوانية التي
لا جدال فيها ، إلا أنه الوحيد الذي استطاع
أن يظهر وعيا نقديا ,أن ينشئ ويراكم معرفة ويشكل ثقافات وأن يطورها وهذا مصدر كاف جعل النزعة الانسانية تمنحه هذه الأهمية
المتميزة ضمن المخطط الكبير للكون ولأشياء.
هذا التميز ضمن المخطط تبعه يقوم على
ثلاثة أدوار خارج متناول الحيوانات الأخرى هي: دور العارف، دور الفنان الصانع، دور
المتسامي أخلاقيا.
2-
الفردانية:" نزعة تجعل من الفرد مقياس عديد من القيم الكونية"[3] وكان الهدف من هذا المبدإ في المراحل الأولى
تمكين الفرد البرجوازي من استعادة كرامته من الأرستقراطي المتغطرس المستهتر بكل من هو دونه منزلة ،
وافتكاك حريته الشخصية وهو ما تحقق فعلا بعد
عصور ، وقد أحسن المارشال ريشيلو التعبير عن ذلك حين كتب إلى لويس السادس
عشر" في عهد لويس الرابع عشر لم يكن أحد يجرؤ على فتح فمه ، وفي عهد لويس
الخامس عشر كان كل شخص يهمس ، أما الآن فكل شخص يتكلم بملء فيه ، وبحرية وسهولة
تامة " [4]
وقد حصنت كرامة الفرد بعد ذلك بموجب الدساتير ، والقوانين في الدول المدنية الحديثة ، وعنها انبثقت
العديد من المبادئ غطت مجالات مختلفة منها "دعه يمر ، دعه يعمل"
3- حرية الإنسان : يرى بيك دي لامروندول Pic de la Mirandole (1463-1494م)
في كتابه " كرامة الإنسان " أن الله قد حدد مصائر جميع المخلوقات في الكون وحد من قدراتها على التصرف في حيواتها
إلا الإنسان؛ خلقه وزوده بمؤهلات وقدرات لا
حد لها ؛ حرم منها كل عناصر الكون الأخرى ؛ وألقى به في أحضان هذا الكون الشاسع ، وترك له أن يحدد مصيره بنفسه كما يريد ،وحمله
مسؤولية أفعاله ,بعد أن ترك له حرية التصرف في حياته وفق رغباته ؛ فبمقدوره أن يرقى إلى مصاف الملائكة إن أراد ، وله
أن ينحط إلى درك الشياطين إن أراد. فهو صانع ومالك مصيره بمحض إرادته؛ وجل الفلاسفة
والأدباء والمفكرين الإنسيين كانوا ولا يزالون
يقبلون هذا الطرح.
4-الإيمان بأن الإنسان قيمة في ذاته
ولذاته : وحجر الزاوية في هذا المبدإ هو رفض وإدانة
التمييز العنصري والطبقي بكل أشكاله ، والنظر إلى الإنسان مهما كان وكيفما كان
باعتباره أحق الموجودات في الكون بالاحترام والتبجيل والرعاية ، بغض النظر عن عرقه؛
أو لونه ؛ أو جنسه ؛ أو عقيدته ، أوسنه ،أو منزلته الاجتماعية ، فكل ما في الكون أداة
، والإنسان هو الغاية.وأنعكس هذا في الشعر والنثر في بداية الأمر بشكل
محتشم " الفارس والراعية" ثم صار نضالا شريفا وبطوليا في سبيل استرداد قيمة الإنسان "البؤساء
لفكتور هيجو".مع التنبيه إلى أن
هذا مطلب مثالي ، ولكن ما لا يدرك كله لا
يترك جله.
5- الثقة بمعرفة الانسان : وبقدرته على التميز بين الحقيقي والمزيف
، والخير والشر ،والحق والباطل دون حاجة إلى
الاستعانة بالنصوص المقدسة (الوحي)..وقدرة العقل البشري على انتاج معرفة تمكن الإنسان
من فهم الطبيعة وفك ألغازها ، وكشف أسرارها والسيطرة عليها وتسخيرها لفائدته و تحقيق السعادة
للإنسان. هذا في مواجهة المشككين من دعاة فصور العقل
والقدرات الإنسانية كرجال الدين وأتباعهم
الذين لا يتحركون إلا بوحي من السماء ، أو كالعلمانيين الذين يزعمون أن
الإنسان حبيس قوى فيزيائية وبيولوجية
وثقافية اجتماعية.
6- مصلحة الانسان وسعادته: النظر إلى؛ والحكم على الاشياء والمواقف والسلوك بمعيار تمركزها حول
حاجات الإنسان و مدى إسهامها في تحقيق مصالحه الفردية والجماعية وترقية وتحسين شروط
وجوده المادية والروحية.
7- حق الانسان في العلم والتربية : لأنه إذا كان الإنسان محور الكون ؛
فإن جوهر الإنسان هو مقدار ما يتاح له ؛ وما يحصله من معرفة ؛ ومن وعي بذاته وبالكون
؛ومن فنون وصناعات ؛ والتعليم هو السبيل الوحيد إلى إطلاق طاقات الإنسان الفكرية
والإبداعية ،وحرمانه من ذلك حرمانه من أخص وألصق حقوقه بعد الحق في الحياة.
8- التصدي لمحاربة تعاسة الانسان ومسبباتها: بحماية حقوقه الأساسية ، حقه في الحياة
بكرامة ، حقه في حرية الاعتقاد وفي الرأي وفي
التعبير عنه...وحمايته من الفقر والجوع والمرض ومسبباتها ومن الحروب والنزاعات والكوارث.
9- حتمية التواصل وقبول الأخر المخالف : ترى النزعة الإنسانية أن الإنسان واحد
؛ وإن اختلفت أعراقه وألوانه وأديانه وثقافاته ؛ وتعارضت مصالحه الفئوية أو الجهوية
مؤقتا ،وهو اجتماعي بطبعه ؛ ومن ثمة فإن التواصل العاطفي والروحي بين الأفراد والجماعات
والشعوب ضرورة اجتماعية وإنسانية لردم الهوَّات
التي حفرها عدم الاتصال الطويل؛ والحروب المتتالية
؛و المفاهيم والتصورات الوهمية والخاطئة والسلبية التي كونها كل شعب عن غيره ؛والتهيؤ لمواجهة
نتائجها.
10- المساواة بين البشر: فوحدة الجنس البشري تحتم وحدة المقايسس التي يعامل على أساسها ، ومقياس التفاضل الوحيد هو مدى التزام الفرد بترقية
ذاته وإفادة مجتمعه ، والعكس صحيح فالمجتمع الصالح هو الذي يسهر على تحقيق نمو الفرد
الجسدي والروحي في حرية ويساعده على ترقية قدراته ويعمل على إسعاده ولا يوجد مقياس
آخر للمفاضلة يستند إلى العرق أو الجنس أو الدين أو المنزلة الاجتماعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق