السبت، 9 يوليو 2016

الذهاب إلى البحر

  
... وانتهت المرافعة، فأشار القاضي للمتخاصمين بالانصراف وهو يعلن لهما: القضية في المداولة؛  في الأسبوع المقبل عودا لسماع الحكم.قال أحدهما وقد أدار ظهره يريد الانصراف:

 - احكم بما شئت فلن أعود ، ولن أكون من الحاضرين.

 قال القاضي بصرامة فيها حدة:
قف مكانك، ماذا قلت؟ ولماذا لن تحضر؟.

- لأنني سأذهب إلى البحر.

- وماذا تفعل في البحر؟.

-أطعم أسماكه، فقد علمت أنها لم تعد تجد ما تأكله، وتكاد تنفق من الجوع

- أتسخر مني ؟ أم تمزح ؟أم بعقلك لوثة ؟.

- اختر منها ما تشاء يا سيدي القاضي ، أما آنا فإني ذاهب إلي البحر ،وكلما كنت أقرب إلى منتصفه ،وأبعد عن اليابسة ، كنت أسعد، ألم يبلغك يا سيدي القاضي أن الرحمة في بطن الحوت ؟ أقصد أي حوت من حيتان البحار والمحيطات.
 نظر إليه الشرطيان المكلفان بضبط أمن الجلسات ؛ وقد عكست ملامح وجهيهما كل دلائل الولاء للقاضي وفريقه ، والاحتقار للغريب وأمثاله من المكدسين على كراسي القاعة كأكياس القمامة ، وتحفزا للهجوم عليه ،فوضع كل منهما مقبضه على العصا الكهربائية ـ منتظرين إشارة القاضي أو وكيل الجمهورية .
واصل حديثه دون أين يعير أيا من الحضور اهتمامه: .... وشعرت بالطهر يحيطني من كل ناحية ، وصارت ملوحته القاتلة بالنسبة لي ملاحة آسرة ، فالموت بين أحضان الجمال بلا أحقاد ، أول مدرج إلى الجنة الأبدية ، يا سيدي القاضي.

وضع القاضي ذقنه علي كفه وراح ينصت.
- ... يا سيدي القاضي : أخطأنا حين اعتقدنا أن أولاد الحرام قد غادروا إلي الشمال مع من زنى بأمهاتهم...
- صرخ وكيل الجمهورية: اسكت. شرطي أخر...

أمر القاضي:
- شرطي انتظر، دعه يكمل...وأضاف :- هذب ألفاظك -.
 واصل الرجل كلامه وكأنه وحده ، أو هو لا يعي ما يدور حوله :
...أولاد الحرام- أيها السادة - تواروا دون أن يناموا ، حين كانت نشوة ما اعتقدناه نصرا ترقصنا ، وحين كانت هي العزف وهي الإيقاع ،هي الرحلة والراحلة و المتاع، وحين كان بأجسادنا المنفلتة من الأغلال شوق إلى الحركة الحرة ، في أحضان الساحات العطشى لروائح البطولة المنسابة من قمم الجبال ، نازلة مع الجداول عبر السفوح، ملتفة على نول الرغبة في غزو الفضاء المملوء بأرواح الآباء الأباة.

  -يا سيدي القاضي حينذاك ، استغل أولاد الحرام تعب الأبطال ، ومللهم ، وجنوحهم للراحة والركون للذتها، فتكاثروا وانتشروا ، وجمعوا كل الأرقام السرية ، ومفاتيح المنافذ، والسراديب الخفية ، ومسكوا بأيديهم الجو ، والبر ، وشواطئ البحر ، وقيدوا ما بقي من الأبطال ،ثم جلسوا عنوة على صدورهم ، وصدورنا ، في كل زاوية ولية من مفاصلنا ، ومفاصل هذا الوطن ،بل ومفاصلي وهي الآن بفعل سمومهم تؤلمني ، و استأنفوا عهرهم المعتاد دون خشية.

 - سيدي القاضي : عليك أن تعرف أن عهر الواحد منهم ، يفوق عهر كل الشياطين مجتمعة ، وظلمهم لم يعد يؤلم الناس والحيوان و النبات فقط ، بل صار يؤلم شياطين العوالم بأسرها ، ويدفعها للثورة ، وقد امتلأ ظهر الأرض بهم ، الشياطين نفسها ، غدت مثلنا تماما تستعيذ منهم بما في الأناجيل؛ والقرآن ؛والتوراة؛ والزابور ، وكل الكتب المقدسة من تعاويذ دون فائدة...
وكان الرذاذ والزبد والملح قد بدأ يغزو شفتيه؛ ويتطاير منهما ، حين استدار دون أن يستأذن أحدا ،  تواري خلف الباب الخارجي للمحكمة ، وهو يتلو حاله المتناثرة المتشظية على أسماع الحاضرين والعيون المشيعة تقتفي أثره.

الضيف حمراوي 28/06/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  .الدائرة جلست في الساحة العمومية؛ على كرسي من كراسيها الخشبية المهترئة؛ أحادث نفسي وتحادثني، ماذا حدث حتى تكاثرت هذه الوجوه المتعبة الحزين...