... وانتهت المرافعة، فأشار القاضي للمتخاصمين بالانصراف وهو يعلن لهما: القضية في المداولة؛ في الأسبوع المقبل عودا لسماع الحكم.قال أحدهما وقد أدار ظهره يريد الانصراف:
- احكم بما
شئت فلن أعود ، ولن أكون من الحاضرين.
قال القاضي
بصرامة فيها حدة:
- قف مكانك، ماذا قلت؟ ولماذا لن تحضر؟.
- لأنني سأذهب إلى البحر.
- وماذا تفعل في البحر؟.
-أطعم أسماكه، فقد
علمت أنها لم تعد تجد ما تأكله، وتكاد تنفق من الجوع
- أتسخر مني ؟ أم تمزح ؟أم بعقلك لوثة ؟.
- اختر منها ما تشاء يا سيدي القاضي ، أما آنا فإني
ذاهب إلي البحر ،وكلما كنت أقرب إلى منتصفه ،وأبعد عن اليابسة ، كنت أسعد، ألم يبلغك يا سيدي القاضي أن الرحمة في بطن الحوت ؟ أقصد أي حوت من حيتان البحار والمحيطات.
نظر إليه الشرطيان المكلفان بضبط أمن الجلسات ؛ وقد عكست ملامح وجهيهما كل دلائل الولاء للقاضي وفريقه ، والاحتقار للغريب وأمثاله من المكدسين على كراسي القاعة كأكياس القمامة ، وتحفزا للهجوم عليه ،فوضع كل منهما مقبضه على العصا الكهربائية ـ منتظرين إشارة القاضي أو وكيل الجمهورية .
واصل حديثه
دون أين يعير أيا من الحضور اهتمامه:
.... وشعرت بالطهر يحيطني
من كل ناحية ، وصارت ملوحته القاتلة بالنسبة لي ملاحة آسرة ، فالموت بين أحضان الجمال
بلا أحقاد ، أول مدرج إلى الجنة الأبدية ، يا سيدي القاضي.نظر إليه الشرطيان المكلفان بضبط أمن الجلسات ؛ وقد عكست ملامح وجهيهما كل دلائل الولاء للقاضي وفريقه ، والاحتقار للغريب وأمثاله من المكدسين على كراسي القاعة كأكياس القمامة ، وتحفزا للهجوم عليه ،فوضع كل منهما مقبضه على العصا الكهربائية ـ منتظرين إشارة القاضي أو وكيل الجمهورية .
وضع القاضي ذقنه علي كفه وراح ينصت.
- ... يا سيدي القاضي : أخطأنا حين اعتقدنا أن أولاد الحرام
قد غادروا إلي الشمال مع من زنى بأمهاتهم...
- صرخ وكيل الجمهورية: اسكت. شرطي أخر...
أمر القاضي:
- شرطي انتظر، دعه يكمل...وأضاف :- هذب
ألفاظك -.
واصل الرجل كلامه وكأنه
وحده ، أو هو لا يعي ما يدور حوله :
...أولاد الحرام- أيها السادة - تواروا دون أن يناموا ، حين كانت نشوة ما
اعتقدناه نصرا ترقصنا ، وحين كانت هي العزف وهي الإيقاع ،هي الرحلة والراحلة و المتاع، وحين كان بأجسادنا المنفلتة من الأغلال
شوق إلى الحركة الحرة ، في أحضان الساحات العطشى لروائح البطولة المنسابة من قمم الجبال
، نازلة مع الجداول عبر السفوح، ملتفة على نول الرغبة في غزو الفضاء المملوء بأرواح
الآباء الأباة.
-يا سيدي القاضي حينذاك
، استغل أولاد الحرام تعب الأبطال ، ومللهم ، وجنوحهم للراحة والركون للذتها، فتكاثروا
وانتشروا ، وجمعوا كل الأرقام السرية ، ومفاتيح المنافذ، والسراديب الخفية ، ومسكوا
بأيديهم الجو ، والبر ، وشواطئ البحر ، وقيدوا ما بقي من الأبطال ،ثم جلسوا عنوة على
صدورهم ، وصدورنا ، في كل زاوية ولية من مفاصلنا ، ومفاصل هذا الوطن ،بل ومفاصلي وهي
الآن بفعل سمومهم تؤلمني ، و استأنفوا عهرهم المعتاد دون خشية.
- سيدي القاضي : عليك
أن تعرف أن عهر الواحد منهم ، يفوق عهر كل الشياطين مجتمعة ، وظلمهم لم يعد يؤلم الناس
والحيوان و النبات فقط ، بل صار يؤلم شياطين العوالم بأسرها ، ويدفعها للثورة ، وقد
امتلأ ظهر الأرض بهم ، الشياطين نفسها ، غدت مثلنا تماما تستعيذ منهم بما في الأناجيل؛
والقرآن ؛والتوراة؛ والزابور ، وكل الكتب المقدسة من تعاويذ دون فائدة...
وكان الرذاذ والزبد والملح قد بدأ يغزو شفتيه؛ ويتطاير
منهما ، حين استدار دون أن يستأذن أحدا ، تواري خلف الباب الخارجي للمحكمة ، وهو يتلو حاله المتناثرة المتشظية على
أسماع الحاضرين والعيون المشيعة تقتفي أثره.
الضيف حمراوي 28/06/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق